رحلة الحج

download

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }البقرة
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }الحج27
– رحلة الحج “
ليست كغيرها من الرحلات إنها ليست رحلة بالأجساد الى مكة حيث الكعبة
وجبل عرفات ، إنها رحلة ربانية ، رحلة نورانية ،
رحلة قلوب وأرواح تسعى الى خالقها ، فتتصل بأصلها وتستمد القوة و الحياة و السعادة وتتزود بالتقوى خير زاد .
إن هذا البيت الحرام ليس كغيره من البيوت وإن كان من حجارة متشابهة إنه بيت اله الحرام ، وهذا الجبل ليس كغيره من الجبال ، وإن كان من نفس مكونات الجبال لقد خصهما الله بأسرار وفيوضات وتأثير وتجليات كما خص سبحانه القرآن كلامه العظيم بأسرار وإعجاز وتأثير ، وإن كان من ألفاظ وحروف مثل التى نتكلم بها ، وهذا فضل منه ورحمة بنا وتيسير ، فإننا لا نقوى على تحمل كلام الله على حقيقته مباشرة :
{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله }
كما أننا لا نستطيع تحمل تجلى الله :{ فلما تجلى ربه للحبل جعله دكاً وخرَّ موسى صعقاً } فيسر الله لنا زيارته و القرب منه ومناجاته و النيل من فيوضاته بزيارة بيته الحرام الذى تجلى عليه وخصه بفيوضات وأنوار تنعكس علينا بالقدر الذى نتحمله .
وعلى قدر تهيؤ القلوب التى تخشى ربها على قدر استقبالها لهذه الأنوار و الفيوضات الربانية كما هو الحال مع كتاب الله :
{ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله } . فيا أخي عش رحلة الحج من خلال هذه النظرة الربانية كرحلة حياة للقلوب والأرواح ، لا من خلال النظرة الجسدية الحسية فينشغل القلب بالله والقلب منه التزود من فضله وإحسانه ورحمته فيتحقق لك الحج المبرور و الزاد الموفور و الذنب المغفور وتعود طاهراً نقياً كيوم ولدتك أمك .
– وبهذه النظرة تعرف سر تلك المشاعر والأحاسيس الغامرة التى هى مزيج من أحاسيس الخشية و المهابة و الفرح والسعادة عند وقوع بصرك على الكعبة المشرفة لأول مرة .
– و الطواف بالكعبة وهو تحية هذا المسجد تبدأ باستلام الحجر الأسود وتقبيله إذا تيسر لك ذلك متمثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا الاستلام وهذا التقبيل مصطحباً نية العهد مع الله على التزام صراطه المستقيم و القيام بواجبات الإسلام من جهاد وتضحية ، ونصرة لدينه فى عزم صادق على الوفاء بالعهد وإتمام البيع واستشعاره خطورة النكث فى العهد وما يترتب عليه من غضب الله وعذابه ، وفى إتمام هذا العهد بهذه الصورة زاد على طريق الدعوة .
– الطواف حول البيتصلاة فى صورة خطوات ودورات ودعوات فأده كأدائك للصلاة فى خشوع وحضور قلب وأدب ورفق بإخوانك أثناء الطواف واستشعر اطلاع الله عليك وأنت تؤدى هذه العباد حول بيته الحرام ، واعلم أن قلبك هو موضع نظر الله إليك فأخله من كل شىء إلا الله وحب الله ، الإخلاص لله حينئذٍ تسمو الروح وكأنها هى التى تطوف حول البيت وليست الأقدام ، ولتكثر من ذكر الله و الدعاء لك ولإخوانك ولدعوتك .
– وعند الملتزم بعد الطواف استشعر التصاقك بالبيت الرغبة الشديدة فى القرب من الله وبتعلقك بأستار الكعبة ، استشعر الفقر و الحاجة الى الله والى مغفرته ورضوانه ، وبوقوفك على أعتاب الكعبة استشعر وقوف العبد الفقير على باب الغنى الكريم ، وليطلع الله منك على صدق الإقبال عليه والإخلاص له والخوف منه و الرجاء فيه والندم و التوبة النصوح و الشعور أن لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه مع الشعور بالحب و الخضوع ولذة القرب و الطاعة وفى هذا مزيج من المشاعر الطيبة السامية ، أكثر الدعاء واسكب العبرات وجدد العزم والعهد مع الله وكأنك لا تريد أن تترك أعتاب بابه إلا لتتيح الفرصة لغيرك من ضيوف الرحمن .
– وعند مقام إبراهيمتصلى ركعتين وتتذكر الصلة الروحية الممتدة عبر الأجيال بيننا وبين سيدنا إبراهيم عليه السلام واستجابة الله لدعواته بأن بعث فينا محمداً صلى الله عليه وسلم رحم للعالمين .
– وماء زمزم ليسكغيره من الماء فقد خصه الله كذلك بخير كثير ولنتذكر عند شربنا منه السيدة هاجر أم إسماعيل وكم قاسا من العطش قبل ظهور زمزم ، فلنروض أنفسنا على تحمل المشاق فى سبيل الله فى ميادين الجهاد
– و السعى بين الصفا و المروةأيضاً من شعائر الحج و العمرة ، فهو عبادة وليس مجرد سير هذه الأشواط وإذا صاحبها شعور بالتعب و المشقة فلنتذكر السيدة هاجر وسعيها بين الصفا و المروة بحثاً عن الماء لوليدها الذى أشرف على الهلاك فما أجدرنا أن نتحمل المشاق السفر و الجهاد فى سبيل الله تعبداً وتقرباً الى الله زكاة لصحتنا وشغلاً لأبداننا بطاعة الله .
– فى أيام إقامتك بمكة وفى رحاب البيت الحرام ما أروع وأجمل أن تنتهز الفرصة وتؤدى جميع الصلوات و الكعبة المشرفة أمام ناظريك .
وفى هدوء الليل تنتحى جانباً فى رحاب الكعبة وتتهجد لله وتناجيه وتخبت له وتخشع وتطرق باب الكريم بركعات وسجدات ودعوات ودمعات من خشيته ، وفى هذا الجو الربانى لا تنس أن تسأل الله أن يعز جنده وينصر دينه ويهزم أعداء الإسلام فى كل مكان .
وفى مكة حين تسير فى شعابها وبين أرجائها وتزور غار حراء وغار ثور ، عش ذكريات أيام الدعوة الأولى وما تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم و المسلمون الأول ، من إعنات وتعذيب وإيذاء بسبب عقيدة التوحيد ، وتذكر صبرهم وثباتهم وإصرارهم على تبليغ الدعوة . وتذكر دار الأرقم بن أبى الأرقم التى ربى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأبطال الذى اندكت على أيديهم كل الضلالات وحصونها من عبدة الأصنام وعبدة النار ، والروم و اليهود ، واستشعر أنك تسير على أرض سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
– إن فى اجتماع الحجاج من كل أقطار العالم فرصة سانحة لتقوية الروابط بين المسلمين وتعارفهم وتعرفهم على أحوال بعضهم البعض ، وتبادل المشاعر والآمال والآلام ليكونوا حقاً كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وليتدارسوا أهم القضايا التى يعيشها العالم الإسلامى والأقليات الإسلامية ، وكيد الأعداء وكل ما يهم المسلمين وحبذا لو تبادلوا المراسلات بعد الحج لتدوم الصلة وتعرف الأحوال وليتمثل الحجاج شعار وحدة الأمة الإسلامية :{ وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } .
– وعلى عرفات الله هذا الجبل الذى خصه الله دون الجبال بهذا الخير ، وهذا الفضل وهذه الفيوضات و الرحمات تتنزل على ضيوف الرحمن وقد اجتمعوا جميعاً فوق هذا الجبل ، فى زى الإحرام المبسط يجأرون الى الله بالدعاء بصورة تذكرهم بيوم الحشر ، إنه مشهد عظيم ويوم عظيم ، وقد روى مسلم وغيره عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ? ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفه وأنه ليدنو عز وجل ثم يباهى بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ؟ ) .
ومن الخير الذى أفاضه الله على هذا اليوم أن جعل صيامه لغير الحجاج يكفر سنة قبله وسنة بعده فعن أبى قتادة رضى الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة ? قال : يكفِّر السنة الماضية و الباقية ) رواه مسلم .
وعند الإفاضة من عرفات تجيش المشاعر عند وداع هذا الجبل الحبيب وهذا اليوم المبارك وهذا الموقف العظيم وتتعلق القلوب برجاء القبول .
وفى رمى الجمار معنى الانقياد للأمر وتحقيق العبودية بالامتثال ، وإن لم يكن للعقل حظ فى هذا الفعل ، ولتذكر تعرض إبليس لسيدنا إبراهيم عليه السلام ليثنيه عن طاعة أمر الله وعدم استجابة الخليل لهذه الوسوسة ، فما أجدرك أيها الحاج أن تتجسم أمامك خطورة نزغات الشيطان ووسوسته وضرورة مقاومته وأنت ترمى الجمرات دحراً لهذا الشيطان الرجيم .
– وفى ذبح الهدى وتوزيعه على المحتاجين من المسلمين قربة لله ومرضاة له ورجاء فى أن يعتقك الله من النار ، وفى ذلك أيضاً تحقيق معنى العطف على الفقراء وإطعامهم من أفضل الهدى :{ والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع و المعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } .
– وفى طواف الوداع الإحساس بفراق أعز الأماكن وأحبها الى قلبك وكلك رجاء فى قبول الله هذا الحج ورجاء فى العودة فيما يقبل من العمر .
– وفى الرحلة الى المدينة تذكر هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم و المسافات التى قطعها وهو يطارد واستقبال أهل المدينة وبدئه ببناء المسجد وعش هذه الذكريات العطرة ، وما فيها من إنجازات كبيرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته و الغزوات و الفتوحات وتطهير الجزيرة من الشرك والأصنام ومن اليهود بعد حنثهم العهود كما هى عادتهم التى قررها القرآن .
– وفى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، تذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى ? مابين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة ومنبرى على حوضى ) فعش هذه السعادة الروحية التى هى أقرب الى سعادة أهل الجنة برضوان الله – واستشعر الصلة الروحية بينك وبين الرسول الحبيب وأنه حريص علينا وبالمؤمنين رؤوف رحيم عزيز عليه إعناتنا ، سلِّم عليه وصلِّ عليه وادع الله أن يجازيه عنا خير ماجازى نبياً عن أمته ، وكذلك الخليفة الأول أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، وعمر بن الحطاب أمير المؤمنين ، وادع الله أن يحشرنا مع هؤلاء النفر الكرام .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...