حينما نفقد التوازن النفسي

1

مجدي مغيرة

تحدثنا الكتب التي رصدت الثوراتِ عن التقلباتِ النفسية التي تمر بها الشعوبُ أثناء تلك الثورات ، وكيف يتحول الإنسانُ تحولا مناقضا لما كان عليه من قبل ، كما يقول جوستاف لوبون في كتاب “روح الثورات والثورة الفرنسية” ( فصل : تقلبات الخَلْق أيام الثورات ، تحت عنوان : تحول الشخصية ) : “لكل امرئٍ — ما عدا نفسيته الثانية — شؤون خُلُقية متقلبة تُظهرها الحوادث.وتتألف شخصية الإنسان الخاصة من اجتماع شخصياتٍ وراثيةٍ كثيرة تبقى متوازنة ما دامت البيئةُ ثابتةٌ لا تتقلب ، فمتى تقلبت هذه البيئة كثيرًا ، وذلك كما يقع أيام الفتن ، اختل هذا التوازن وتألَّفَ من تكتلِ العناصرِ المنحلةِ شخصيةٌ جديدةٌ ذاتُ أفكارٍ وعواطف ومناهج تختلف جدًّا عن الشخصية العادية ، ومن ذلك أن كثيرًا من رجال الصلاح والقضاء ، الذين كانوا موصوفين بالحلم ، انقلبوا أيام الهول إلى أناس متعصبين سفاكين للدماء.”

والعجيب أن تلك التحولات لا تنشأ عن قلة فهم أو عن ضعف ذكاء ، بل كما يقول جوستاف لوبون : ” وليس الذكاء هو الذي يتغير عند تحول الشخصيات ، بل المشاعر التي يتألف الخُلُق

منها. ( المرجع السابق ) .

وافتقاد التوازن ينتج عنه الغرور الكبير في حال تحقق النصر و في حال تحقيق إنجاز كبير ، أو ينتج عنه يأسٌ قاتل وقنوط شديد ، وإحباط لا حدود له في حال الهزيمة و في حال انكسار كبير .

فالمغرور( سواء كان من المؤيدين للثورة أو من أنصار الثورة المضادة ) يعتقد أن بإمكانه فعلَ كل ما يريد ، ولا شيء يمتنع عليه ، فخططه دائما محكمة ، تحقق أهدافها بمستوىً عالٍ ودقة متناهية .

والمنكسر يعتقد أنه فقد كل شيء للأبد ، ولا مجال لإصلاح أي شيء ، ويعتقد أنه فاشل في كل ما يعمله ، فمخططاته دائما هزيلة ، سطحية ، لا تناسب الأحداث ؛ مما يؤدي إلى أن تحقق نتائج عكسية في غير صالح واضعيها .

وقد رأينا ذلك رأي العين في ثورة 25 يناير ، فالثوار الذين طاروا فرحا بتخلي حسني مبارك عن الرئاسة أصابهم غرورٌ كبيرٌ ، وارتفع سقفُ أمانيهم ، ولم يدركوا الواقعَ المعقد الذي يعيشون فيه ؛ فصاروا يطالبون بمطالب هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة والواقع ، وتعاملوا مع كل من يعتلي كرسي الحكم وكأنه يملك عصا سحرية قادرة على فعل كل شيء .

وبسبب كثرة المزايدات والتمادي فيها ؛ تمكنت الدولة العميقة بقيادة العسكر من العودة مرة أخرى إلى كرسي الحكم بشكلٍ أشد شراسة عن ذي قبل ؛ فأقامت المذابح والمجازر للثوار وهي كذلك تعتقد اعتقادا خطأً نشأ عن الغرور أيضا أنها قادرة على إبادة هؤلاء الثوار ، وقادرة على دفن أحلامهم وآمالهم في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ، وقادرة على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة ، بل وقادرة على السيطرة على جميع التحركات الجماهيرية مهما كان مستوى غضبها وشموله .

في مقابل ذلك انكسر كثير من الثوار .

ومع كثرة المذابح والاعتقالات والأحكام الجائرة ، وسيادة منطق الخوف ، وطول الزمن نسبيا الذي تمكنت فيه الدولة العميقة والعسكر من البقاء في الحكم ، ظن الكثيرون من هؤلاء الثوار أن الأحلام قد انتهت ، وأن الآمال قد تبخرت ، وأنهم أعجز من أن يواجهوا تلك الموجة العاتية من الظلم ، لأن من يقودونهم فَشَلَة ، عَجَزَة ، أنانيون ، قد تجاوزهم الزمن بمراحل ، وقد آن لهم أن يستقروا في المتاحف لا على رأس الثوار الذين وثقوا فيهم وهم ليسوا أهلا للثقة وإن كانوا مناسبين لزمن مضى.

هذه الحالة النفسية التي تصيب الثوارَ غالباً ما تؤدي إلى كثير من النتائج السلبية ، إذ يفقد كثير من الثوار الثقة في أنفسهم وفي قادتهم ، ويفقدون الثقة في قدرتهم على تحقيق النصر ، ويتحولون إلى جلادين لأنفسهم ولقادتهم بسياط النقد المرير الذي ينتقد كل شيء حتى لو كان في صالحهم وفي صالح ثورتهم .

وحينما أقرر ذلك لا أقصد أن الثوار وقادتهم كانوا مثاليين في تحركاتهم ومخططاتهم ، وفي تقييمهم لتجربتهم ، أو يجب أن يكونوا كذلك .

فمن المعروف والمسلَّم به أن كل عمل بشري لكل جماعة من جماعات البشر يختلط فيه الصواب والخطأ ، وحسن التقدير وسوء التقدير ، كما يحدث فيه الفشل والتوفيق ، سواء كان ذلك في الماضي أو الحاضر وكما سيحدث أيضا في المستقبل .

ولذا فقد حرص القرآن الكريم على بناء المسلم بناءً نفسيا متوازنا ، حتى لا يغتر بنصر أو ينكسر بسبب هزيمة ، ففي سورة الحديد نقرأ قوله تعالى : ” مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) من سورة الحديد .

ومما ورد في تفسير الآيات الكريمة من كتاب “صفوة التفاسير” :

“قال المفسرون: والمرادُ بالحزنِ ( الأسى ) الحزنُ الذي يوجبُ القنوطَ ، وبالفرح الفرحُ الذي يورث الأَشَرَ والبَطَرَ ، ولهذا قال ابن عباس : «ليس من أحدٍ إِلا وهو يحزن ويفرح ، ولكنَّ المؤمن يجعل مصيبته صبراً ، وغنيمته شكراً» .

ومعنى الآية : لا تحزنوا حزناً يخرجكم إِلى أن تهلكوا أنفسكم ، ولا تفرحوا فرحاً شديداً يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا ، ولهذا قال بعض العارفين : «من عرف سرَّ الله في القدر هانت عليه المصائب» .

على المؤمنين بحق الشعوب في أن تنال حريتها أن لاييأسوا ، وأن لايفقدوا الثقة في أنفسهم ، ولا في خططهم ، ولا في قدرتهم على الانتصار على الانقلاب ، فبرغم ألمهم ، وبرغم مصابهم الجلل ، فإن أعداءهم وخصومهم أيضا في ورطة كبيرة ، وصدق الله تعالى حين قال : ” وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا” النساء (104) .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...