جهلٌ أم غثائية ؟

1

مجدي مغيرة :

ربما نتكلم كثيرا عن ضرورة التخطيط لمواجهة العدو ، وعن ضرورة إنشاء مراكز الأبحاث ، وعن ضرورة تجديد الدماء ، وعن ضرورة الاصطفاف ، وعن ضرورة الوعي ، وعن ضرورة أشياء كثيرة ، لكننا غالبا ما ننسى أن كل ما ذكرنا لا يفيد شيئا إذا كانت النفوس التي ستقوم بالأداء والتنفيذ نفوس صغيرة ، ضعيفة الهمة ، لا تقوى على تحمل تبعات الجهاد ، ولا تصبر على طول الطريق وعقباته ومشقاته .

ولعل ما يوضح ذلك هو الحديث الشريف الذي ورد في صحيح أبي داود ، وصححه الألباني عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : “يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها . فقال قائلٌ : ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ ؟ قال : بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءُ السَّيلِ ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم ، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوَهْنَ . فقال قائلٌ : يا رسولَ اللهِ ! وما الوَهْنُ ؟ قال : حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ” .

فالحديث الشريف بيَّن لنا أن مشكلتنا في ضعف نفوسنا وحرصنا على الدنيا وخوفنا من الموت ، وليس في أمر آخر .

واهتمامنا بشئون حياتنا أكثر من اهتمامنا بشئون ديننا وبالجهاد في سبيل الله يوجب علينا عقابا من الله تعالى وهو عقاب الذل .
ففي الحديث الشريف الذي أورده ابن تيمية بسند صحيح في بيان الدليل ، وبإسنادين جيدين في مجموع الفتاوى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “إذا تبايعْتمْ بالعِينةِ واتَّبعتُمْ أذنابَ البقرِ وتركتمُ الجهادَ في سبيلِ اللهِ أرسل اللهُ عليكم ذُلًّا لا يرفعُه عنكم حتى تراجِعوا دينَكم” .

والذل هو مفتاح كل شر

فبسبب الذل تفرقنا وصار بأسُنا بيننا شديدا ، واستعملنا العدو في ضرب بعضنا بعضا،

وبسبب الذل صارت خيرات بلادنا لعدونا ، وحرمنا الله منها ، وبسبب الذل باع الكثيرون ضمائرهم من أجل منصب أو مال أو جاه ، وبسبب الذل انتشر بيننا الحقد والحسد واستكثر بعضُنا أن يتميز البعض الآخر عليه ، وبدلا من مساعدته وتشجيعه صار أداة لهدمه وإفشاله ، وبسبب الذل فقدنا ثقتنا بأنفسنا ، وبقدراتنا ، وصرنا ننظر لأنفسنا على أننا أقل من أن نؤدي أداءً مميزاً ، وأقل من أن نحقق نجاحا كبيرا ، وأقل من أن نحقق إنجازا عظيما .

أما قوة النفس وعلو الهمة ، والطموح الذي لا حدود له ، فذلك هو مفتاح النجاح والفلاح ، وما أجمل قول الشاعر :

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسادُ

وما أجمل قول الآخر :

تُعَيِّرُنـــــا أنَّا قليلٌ عديدُنــا فقلت لهـا إن الكرام قليلُ

وما ضرَّنا أنا قليلٌ وجارنا عزيزٌ وجار الأكثرين ذليلُ

وقد عبَّرَ الشعرُ العربي عن تفاهة الكثيرين ، وقلة قيمتهم إذا فقدوا عزيمتهم ، وضعفت هممهم ، فقال أحدهم :

ما أكثر الناس !لا… بل ما أقلهم ! الله يعلم أني لم أقل فَنَداً ( كذبا )

إنـي لأفتح عينـي حيـن أفتحهــا على كثيرٍ ، ولكن لا أرى أحدا

ولذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم أول ما اهتم قبل بناء الدولة ، اهتم ببناء النفوس ، وتنظيف القلوب ، وتطهير الأرواح ، وقبل أن يعدَّ قوة السلاح أعدَّ قوة الإيمان وقوة الأخوة ، فقوة العقيدة والإيمان أولا ، وقوة الوحدة والارتباط ثانيا ، ثم قوة الساعد والسلاح ثالثا ، وبدون ذلك لن نستطيع أن نتحرر ، أو أن نحرر بلادنا .

وانظر إلى رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين في موقعة القادسية ضد الفرس : ” أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال ،فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب‏.‏
وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم ،فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم‏.‏

وإنما يُنْصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله ،ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا نُنْصَر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا”‏.‏

وفي موقعة القادسية الشهيرة ذاع صيتُ الفارس الكبير عمرو بن معدي كرب ، واشتهر معه سيفه المعروف باسم الصمصامة ، وقد تحدث الناس كثيرا عن سيف الصمصامة هذا حتى قالوا فيه الأعاجيب ، فلما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقصة هذا السيف ، أراد أن يراه ليعرف سره ؛ فأرسل إلى عمرو بن معدي كرب أن يبعث إليه بسيف الصمصامة ؛ فأرسله عمرو إلى عمر بن الخطاب ، فلما وصل السيف إلى عمر رضي الله عنه وجده سيفا كباقي السيوف لا يتميز عنها بشيء ؛ فأرسل إلى عمرو بن معدي كرب رسالة قال له فيها :” إنا لم نجد الصمصامة كما كنا نسمع ” ؛ فرد عليه عمرو بن معدي كرب في رسالة أخرى وقال له : ” يا أمير المؤمنين ، لقد أرسلت تطلب الصمصامة ، ولم ترسل إلى الذراع الذي يحمل الصمصامة ” .

قوة العزيمة ، وعلو الهمة ، والزهد في الدنيا ، والاستهانة بالموت هي المقدمات الطبيعية لمواجهة العدو ، وبدون ذلك ، فما أسهل تدمير الأسلحة ، وما أسهل ضياع الأرض ، وما أسهل إهدار الثروات ، وما أسهل ذبح الشعوب مهما كانت كثيرة العدد والعتاد .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...