الشرعية .. إنجاز بين نكبتين بقلم: عادل الأنصاري

أطلق البعض تعبير “النكبتين” لتدل الأولى على النكبة الكبرى التي حدثت مع إعلان الأمم المتحدة قيام دولة عنصرية سقطت على أثرها أغلبية فلسطين في يد المحتل، بينما تدل الثانية على ما حدث في عام 67 عندما سقطت البقية الباقية من فلسطين وفي القلب منها المسجد الأقصى ومعها سيناء والجولان في يد المحتل نفسه.

إلا أنني أشعر أن التعبير ينسحب بشكل أدق على نكبتين أحدهما نكبة فلسطين عام 1948م، والثانية نكبة استلام العسكر قيادة الأمة في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لتكون بمثابة النكبة الكبرى الثانية، على حين كانت نكسة  –أو قل وكسة- 1967م هي أحد إفرازات أو تداعيات النكبتين.

ولعل الجذر الذي يقف وراء النكبتين ليس بعيدا عن عمليات التسليم والتسلم الاستعماري التي تمت عقب الحرب العالمية الثانية والتي خططت لها قوى الاستعمار الجديد وباتت تحكم العالم بعد حربين عالميتين كبريتين.

وقد تجلت الأدوات الاستعمارية التي شكلت الواقع الجديد بعد الحرب العالمية الثانية في عاملين رئيسين أولهما: تثبيت أركان دولة استعمارية جديدة في قلب العالم العربي وهو ما نطلق عليه النكبة الأولى، أما  العامل الثاني فقد ظهر في تثبيت أركان الحكم العسكري داخل مكونات وكيان الأمة العربية والإسلامية وهو ما وقعت أحداثه في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.. وتمخض عنه ما يمكن أن نطلق عليه النكبة الثانية الكبرى.

وباستعراض واقعي للمحاولات الشعبية الخالصة للتعامل مع ومواجهة النكبة الأولى نجد جهودا بارزة بدت حينها عندما خرجت الكتائب الشعبية من مصر وسوريا والعراق في مواجهة صناع النكبة الأولى لمحاولة تفاديها ومقاومة تأثيراتها الخطيرة.

وقد كانت كتائب الإخوان المسلمين في المقدمة من هذه الكتائب الشعبية عندما خرجت إلى فلسطين فقاومت وبذلت الجهد إلى أن اكتملت فصول المؤامرة عليها فعادت أدراجها إلى سجون المستعمر التي اتشحت حينها بغلالة وطنية تمثلت في حكومات محلية أشرفت حينها على السجون وتابعت مسلسلات التعذيب والعقاب للمقاومين.

أما التحركات الشعبية لمواجهة النكبة الثانية فقد تجلت في مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن، وكانت أقسى فصولها في المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر وما تمخض عنه من اعتقال عشرات الآلاف من المنتمين إلى الجماعة في أيام قليلة.

وقد جاءت تلك الأحداث الدامية نتيجة طبعية للإدراك المبكر لخطورة تمكين العسكر من السلطة بما أدى لاحقا إلى وقوع النكبة الثانية الكبرى من خلال التأسيس لدولة الاستبداد والقهر، بديلا عن دولة الحرية، حيث يتم التداول على السلطة في ظل دولة مدنية حديثة.

وقد ظلت العلاقة بين العسكر وجماعة الإخوان المسلمين متوترة في عمومها على مدار العقود الستة التي سيطر فيها العسكر على مقاليد الحكم رغم مراحل التهدئة المحدودة التي كانت تظهر بين الحين والآخر، بينما ظل التوجس المتبادل هو سيد الموقف بين الطرفين منذ ذلك الحين.

ومنذ منتصف السبعينيات شهدت الساحة عاملا مستجدا حكم العلاقة بين القوى الشعبية من جانب وبين مكونات النكبة الأولى والثانية من جانب آخر، حيث التقت مكونات الحكم المستبد مع مكونات الاحتلال الصهيوني في علاقة بدأت على استحياء ثم ما لبثت أن خلعت برقع الحياء فيما بعد لتكون سافرة تمارس الفعل الفاضح على قارعة الطريق.

وقد أضفت هذه العلاقة الآثمة بين منتسبي النكبتين الأولى والثانية مزيدا من التوتر في العلاقة مع القوى الشعبية والوطنية وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين لتصل إلى أسوء حالاتها بعد الانقلاب العسكري الذي تطابقت فيه إرادة المحتل الصهيوني مع إرادة العسكر.. لتشهد الساحة أكبر مواجهة وأخطرها مع جماعة الإخوان بصورة غير مسبوقة.

إلا أن هناك عاملا مستجدا وقعت فصوله في مرحلة الربيع العربي حيث أسفرت الضغوط الشعبية الواسعة عن إحراز هدف في ملعب العسكر أدى إلى انتزاع شرعية الحكم من بين يدي العسكر للمرة الأولى منذ حقبة النكبتين.

صحيح أن الانقلاب الذي وقعت أحداثه في صيف 2013م أسفر عن انتقال قسري للسلطة من الشعب إلى العسكر من جديد، إلا أن صلابة الرئيس المنتخب والكوكبة الصامدة من حوله ما زالت تحجب الشرعية عن قادة الانقلاب وأعادت الكرة إلى مربع الشعب ريثما يتخلص في قابل الأيام من العسكر في ظل موجة ثورية جديدة.

ومن ثم كان انتزاع الشعب للشرعية من خلال انتخاب أول رئيس مدني هو العلامة الفارقة بين ما حدث في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.. وبين ما حدث في مرحلة الانقلاب العسكري صيف 2013م.

وعلى الرغم من أن القساوة التي مرت بها التجربة في مرحلة ما بعد الانقلاب وعلى الرغم من أن الخسائر التي منيت بها الحركة الشعبية بعد الانقلاب كانت أشد وأكبر بكثير جدا مما حدث في الجولة السابقة في الخمسينيات، إلا أن عودة الشرعية للشعب من خلال انتخابات نزيهة وتمسك الرئيس المنتخب بها كانت عاملا فارقا ومرجحا للقوة الشعبية يبشر بانتصار إرادة الشعب وإمكانية خلاصه من مصنعي أحد النكبتين إن لم يكن اليوم.. فسيظل الأمل منعقدا على تحقيقه ولو بعد حين، بينما سنظل نراوح مكاننا في نقطة البدء إذا تخلينا عن أكبر المكاسب التي انتزعها الشعب في معركته مع الاستبداد والاستعمار.

وعلى الرغم من أن هناك في العالم من يتخوف من نجاح الشعب في الاحتفاظ بشرعيته وقدرته على الخلاص من صانعي النكبة الثانية ويرى أن ذلك مؤشرا على وجود رغبة شعبية في الخلاص من صانعي النكبة الأولى، إلا أن أصحاب الحقوق إن ظلوا متمسكين بحقهم فحتما ستتغير معادلات القوة وستتبدل مقاييسها لتصل الشعوب إلى غايتها وتعلن قرب الخلاص من آثار النكبات التي مرت بها.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...