وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ

جاء في بعض الروايات أن جماعة من قريش، ويقال كان ثلاثة (ثقفيان وقرشي، أو قرشيان وثقفي) اجتمعوا عند الكعبة بين أستارها، فقال أحدهما: أترى الله يسمع ما نقول؟، فرد عليه الثاني فقال: إذا جهرنا فإنه يسمع، وإذا أسررنا فإنه لا يسمع، فرد الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا، فإنه يسمع إذا أسررنا؛ فنزلت الآيات الكريمة وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (فصلت:22) وفي رواية، نزل قوله تعالى أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (الزخرف: 80).

ويُروى كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه مكة صعد بلال رضى الله عنه إلى الكعبة ليؤذن، فرأى ذلك جماعة من قريش، فقال أحدهم: الحمد لله الذي أمات أبي فلانا قبل أن يرى هذا المنظر – أي قبل أن يرى هذا العبد الحبشي الأسود يصعد فوق الكعبة ويقول هذه الكلمات – فقال له الآخر: اخفض صوتك لا يسمعك رب محمد فيبلغه- فقال الثالث: أما أنا فلا أنطق؛ فإني أخشى إن تكلمت أن تتكلم عني هذه البنيّة –أي هذه الكعبة – فنزل قول الله عز وجل وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (الملك: 13).
هذه الآيات الكريمة تصحح العقيدة لكل مسلم ولكل إنسان، فالله تبارك وتعالى يسمع السر والجهر، يسمع ما نطقت به الألسنة علانية ويعلم ما نطق به اللسان سرا، ويعلم ما انطوى عليه القلب ولم ينطق به اللسان، بل إن الله تبارك وتعالى يخبرنا أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فربما نظر الإنسان نظرة، وحاول أن يغيّب عن الآخرين معه أنه نظر –لمح بطرف عينه ويختلس النظر- فهذه تسمى خائنة الأعين، وكأن لا أحد يراه فيقول له إن الله يعلم خائنة الأعين، بل يعلم ما العين التي تنظر ما قصدها من النظر، إن كانت تنظر حبا أو تنظر خيانة – فالله يعلم إن كانت هذه العين مفتوحة على نظر حق أم كانت مفتوحة على خيانة، فلا يغيب عن علم الله تبارك وتعالى شيء.

لكن من فضل الله أنه لا يؤاخذنا بما حدثنا به أنفسنا من خواطر إلا إذا تجاوبنا معها وصدقناها في الواقع، فيحاسبنا بما نطقت ألسنتنا وما كسبت أيدينا، أما ما مر على الخاطر، وما جال في الذهن، فإن الله تبارك وتعالى لا يؤاخذنا به إلا إذا حولناه إلى عمل.
وكان قد نزل قول الله تبارك وتعالى لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة: 284)، فشق ذلك على الصحابة، فقالوا: لئن حاسبنا الله على ما أبدينا وما أخفينا، ولئن أخذنا بما نطقنا به وبما استقر في أنفسنا؛ لنكونن من الخاسرين.

فما أكثر ما يحدث الإنسان نفسه بكلام لو نطق به لكان كفرا، فأكثر الخواطر التي تمر على البال وعلى القلب النطق بها يُخرج من الملة، وربما حدث نفسه بحرام، وربما حدّث نفسه بكبيرة من الكبائر، هذه أشياء تمر، والإنسان لا يستطيع أن يمنع نفسه من هذه الخواطر، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستغربين، فقال صلى الله عليه وسلم لا تكونوا كأهل الكتاب إذ قالوا سمعنا وعصينا ولكن قولوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ، فقالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ؛ فنزل التخفيف من الله تبارك وتعالى لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ… إلى آخر الآية (البقرة: 286). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يحاسب أمتي بما حدثت به نسفها مالم تتكلم به أو تعمل به.

إذن.. فهذا اللسان قد يجر الإنسان إلى أن يعبر عن شيء جال بخاطره ويكون شيء سوء، سواء كان سوءا موجها إلى الناس أو سوءا في حق رب الناس تبارك وتعالى، فهذا كله مما يحاسب الإنسان عليه.

ومما تدعونا الآيات الكريمة إلى مراقبة الله فيه، ليكن الله عند لسانك إذا نطقت، قبل أن تنطق، اعلم أن ما تنطق به يُسجل عليك، وأنك تلقاه، وأن الله يعلم ما نطقت به سواء كان جهرا أو سرا.

فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان الرقيب الذي ينقل الأعمال بصير، وإذا كان الناقد جل وعلا يعلم حقائق الأمور؛ فأمسك عليك لسانك، وتحقق من كلامك، وليكن كلامك في خير، فإن عجزت عن الخير فلا تنطق بالشر.

إذا لم يجر الله على لسانك بكلمة طيبة لسانك، فسله ألا يستعمل لسانك في كلمة خبيثة فرب كلمة طيبة قالها الإنسان بغير قصد، رُفع بها الإنسان في الجنة درجات، ولربّ كلمة خبيثة غلبت الإنسان نفسه فنطق بها، أو استفزه شيطانه فقالها، أو دعت الظروف التي هو فيها أن يقولها وهي كلمة خبيثة؛ فهوت به في النار أبد الآبدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم

ومن هنا أيها الأحبة، فإن هذه القصة تعلمنا أن نستشعر أن الله جل وعلا عند ألسنتنا قبل أن ننطق؛ فهو يعلم سرنا وجهرنا، يعلم ما أسررنا وما جهرنا، ما نطقناه سرا وما نطقناه علانية وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ (الملك: 13-14).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيينا على حفظ هذه الألسنة.
وشعارنا اليوم : (أمسك علينا لسانك) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
قبل أن تنطق أمسك لسانك، فالكلمة قبل أن تخرج من لسانك أنت تملكها تستطيع أن تقولها أو لا تقولها، فإذا خرجت من لسانك ملكتك وحُوسبت عليها وصرت تحتاج إلى الاعتذار عنها، ولكن طالما هي في قلبك ولم تنطق بها فأنت لست في حاجة إلى الاعتذار عنها وليست مما تُحاسب عليه، ولكن مجرد أن تتجاوز هذا اللسان صارت مشكلة.
فمن البداية اجعل خازنا للسانك، وأمسك عليك لسانك..
أسأل الله أن يعيننا أن نمسك ألسنتنا.. وأن نحفظ ألسنتنا..
اللهم احفظ ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة..
اللهم احفظ ألسنتنا من أن نقول زورا ..
اللهم إنا نعوذ بك من أن نقول منكرا من القول وزورا..
اللهم اجعلنا ممن يحفظون ألسنتهم ويستعملونها في طاعتك وفي ذكرك وشكرك..
اللهم احفظنا من شر أنفسنا ومن شر شياطين الجن والإنس أجمعين، واجعل أول يومنا صلاحا وأوسطه فلاحا وآخره نجاحا، وما قسمت في هذا اليوم من خير وبركة ورزق فاجعل لنا وللمسلمين منه أكبر الحظ والنصيب، وما قسمت فيه من شر وبلاء وفتنه فاصرفه عنا وعن سائر المسلمين..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .. وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...