عملاق.. عاش سيداً ومات قطباً

د. عزالدين الكومي:
 

مرت ذكرى استشهاد الرجل القرآني، صاحب الظلال الوارفة، والمعالم الواضحة، في فجر الاثنين 29 أغسطس 1966، ومع ذلك بقيت معالمه لم تطمس، وطمست معالم جلاديه، وطويت صفحات الميثاق، فيما بقيت ظلال قطب الوارفة تترجم لكل اللغات، لأن سيد قطب رفض العبودية والخنوع والحياة في ظل الطغيان!!

وكان أهم ما يميز الشهيد سيد قطب هو الإيمان الصادق، وأن الإيمان الصادق الحي الذي يثمر العمل والجهاد والتضحية، وليس الإيمان الصادق في طول لحية أو تقصير جلباب، ولكنه اليقين الذي لا يتزعزع والثبات على المبادئ، والوقوف في وجه الطغاة، فقد رفض أن يهادن في عقيدته!!

وبعد جلسة المحاكمة عاتبه أحد إخوانه قائلاً: لماذا كنتَ صريحاً كل الصراحة في المحكمة التي تملك رقبتك؟! فقال رحمه الله: لأن التورية لا تجوز في العقيدة وليس للقائد أن يأخذ بالرّخص.. فلمّا سمع الحكم قال: الحمد لله، لقد عملتُ خمسة عشر عاماً لنيل الشهادة.

كذلك كان الثبات على المبادئ من أهم ما يميز هذه الشخصية، ولقد حاولت المخابرات الحربية النيل منه بشتى السبل، لكنه كان أمامهم كالطود الأشم. طُلبوا منه الاعتذار مقابل إطلاق سراحه فقال: “لن أعتذر عن العمل مع الله” ثم طُلبوا منه كتابة كلمات يسترحم عبد الناصر بها فقال لهم: “إن أصبع السّبّابة الذي يشهد لله بالوحدانية في اليوم خمس مرات ليرفض أن يكتب حرفاً يُقرّ فيه حكم طاغية” “لماذا أسترحم؟ إن سُجنت بحق.. فأنا أقبل حكم الحق.. وإن سُجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل”، ثم أتاه أحد الضباط قبل أن يُشنق بقليل.. ليكتب لعبدالناصر والصحافة ووكالات الأنباء بضع كلمات فيُفرج عنه.. وكانت تلك الكلمات.. “كنتُ مُخطئاً وإني أعتذر”، فابتسم رحمه الله وقال له بهدوء عجيب “أبداً.. لن أشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول” فقال له الضابط “ولكنه الموت يا سيّد”، فقال رحمه الله: يا مرحباً بالموت في سبيل الله.. افعلوا ما بدا لكم.

وبعد أن أدى صلاة الفجر سيق رحمه الله إلى حبل المشنقة لتنفيذ الحكم.. وجاءه شيخ من مرتزقة الأزهر، يلقنه الشهادتين. فقال الشيخ: قل معي يا سيد.. فقاطعه قائلاً.. يا مسكين.. أنا أساق إلى الموت من أجل لا إله إلا الله.. وأنت تذهب لتأكل فتات الموائد بــ لا إله إلا الله.. ثم ابتسم مردداً الشهادتين.

ولقد أعلن سيد قطب الحرب على مفاهيم الجاهلية السائدة قائلا: أن يعيش الإنسان في مواجهة هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض اليوم، وفي قلبه، وفي همه، وفي حركته أن «ينشئ» الإسلام في نفسه وفي نفوس الناس، وفي حياته وفي حياة الناس، مرة أخرى في مواجهة هذه الجاهلية بكل تصوراتها، وكل اهتماماتها وكل تقاليدها، وكل واقعها العملي وكل ضغطها كذلك عليه، وحربها له، ومناهضتها لعقيدته الربانية ، ومنهجه الرباني وكل استجاباتها كذلك لهذا المنهج ولهذه العقيدة بعد الكفاح والجهاد والإصرار.

ويقول فى موضع آخر: حول هذه البشرية المنكودة زمرة من المستنفعين بهذه الحيرة الطاغية، وهذا الشرود القاتل.. زمرة من المرابين، ومنتجي السينما، وصانعي الأزياء والصحف، والكتاب.. يهتفون لها بالمزيد من الصراع والتخبط والدوار، كلما تعبت وكلت خطاها، وحنت إلى المدار المنضبط والمحور الثابت ، وحاولت أن تعود.

ويحاول الشهيد سيد قطب أن يجيب عن سؤال يختلج فى نفوس الكثيرين الذين يملون طول الطريق وتأخر النصر وانتفاش الباطل مما قد يترتب عليه تسلل اليأس إلى بعض النفوس فيقول رحمه الله: قد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً.

فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة ، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!!

بل يعلن أن الغرب الاستعماري الصليبي لا يمانع من وجود حكم مزيف من أجل خداع البسطاء، حيث يقول: قد يسمح الاستعمار بقيام حكم إسلامي زائف، في بقاع جاهلة من الأرض متأخرة، وفي ظل حكم ديكتاتوريات ظالمة مستغلة، كي يكون نموذجاً سيئًا منفرًا من حكم الإسلام، بل من ذات الإسلام!!

والطريف أن عبدالناصر بعد أن نفذ حكم الإعدام فى الشهيد سيد قطب، كما يقول أنيس منصور فى كتاب (عبدالناصر المفترى عليه والمفتري علينا، ص172) نصحه بعض المقربين بعمل عمرة وأنها كافية لاستعادة تعاطف البسطاء معه، كنت أرافق عبدالناصر في مناسك العمرة وكان متذمراً أثناء الطواف وقال لي: يا أنيس هو لعب العيال ده هيخلص امتى؟؟

وإذا كان صاحب الظلال قد رحل بجسده فلا يزال فكره حاضرا، بعد أن هز قلمه عروش الطغاة، فظنوا في إعدامه خلاصهم، لكن أفكاره لم تمت بموت صاحبها، فظلت أفكاره وكتبه تؤرق الطغاة!!

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...