الهجرة لحظة فارقة

الحمد لله ، والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله وعلي آله ومن والاه أما بعد :
كلما هل هلال المحرم من كل عام تذكرت الأمة – أو يجب عليها أن تتذكر – أن تقوميها القمري منسوب إلي حادث الهجرة النبوية من البلد الأمين إلي حصن الأنصار والمهاجرين ..
فإن الأمة المسلمة لديها رصيد ضخم من تاريخها العريق ومن سيرة قائد مسيرتها ومفجر طاقاتها، ومجمع فصائلها وموحد كلمتها، ومرشدها إلي الإدراك الواعي لسنن الكون ونواميسه التي لا تجامل ولا تستثني ..
ووأن اختيار أمير المؤمنين عمر الفاروق لبدء تاريخ هذه الأمة بهذا الحدث العظيم كان في غاية التوفيق وكان له مغزى عميق يلفت به أنظار الأمة في كل جيل إلي أن لحظة فارقة وحاسمة من رسول الله في غار ثور غيرت مجري الأمة ورتب عليها رب العزة نصره وتأييده تلك اللحظة التي رد فيها علي الصديق حين تخوف من أن ينظر أحدهم تحت قدميه فيراهما بقوله: ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)
(التوبة: من الآية40) في هذه اللحظة التي استحضر فيها نبينا معية الله وعنايته كان التأييد الفوري من مالك القوي والقدر ، وجاءت الفاء المفيدة للترتيب والتعقيب عقب هذه الكلمة: ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَي َكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(التوبة: من الآية40) جعل الله سبحانه هذا الموقف الإيماني من أسباب النصر فقال: ( إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَي كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40) .
– فالكفرة قد أخرجوه، وليس معه من المؤمنين سوي الصديق ومع ذلك نصره بإيمانه واعتماده واستنزاله لمعونة الله واستنفاد طاقاته البشرية في تنفيذ هذه الهجرة احتراماً للأسباب وطاعة لرب الأسباب.
– إنه لم يهاجر من تلقاء نفسه، بل انتظر أمر ربه، لكنه في فترة الانتظار كان يخطط لا نجاح هذه الرحلة بالحيل البشرية التي وهبها الله للإنسان:
1- منع الصديق من الهجرة قائلاً لعل الله يجعل لك صاحباً .
2- استبقي عليًا معه ليحافظ علي خلقه الذي صار وسامًا له عند الكفرة والمسلمينفهو دائماً الصادق الأمين حتى مع من عليه يتآمرون .
3- انتهز الصديق كلمة المصطفي عن الصحبة وجهز رواحله قبل أن يصدر الأمر بأيام ورتب مهمات أهل بيته واختار الخبير بطرق الصحراء واختار الله ساعة التنفيذ في نفس اللحظات التي أحكم فيها الحصار علي بيت رسول الله ليضربوه ضربة رجل واحد .
4- فلم يلفت أنظار الحاضرين بخلو فراشه بل جعل مكانه عليا لإيهامهم أنه محمد .. لم يتخط الأسطح حتى يختفي عن أعين المراقبين .. بل قرر أن يخرج من باب بيته وأمام السيوف المشرعة فقد قام بكل ما يستطيعه البشر وأوكل مهمة التخفي إلي رب البشر مرتلا قوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (يّـس:9) وهنا تدخلت القدرة فأعمت أبصارهم .
5- دخل بيت أبي بكر لم يدخله من الباب الأساسي حتى لا يتسبب صوت فتحه في إيقاظ جيرانه فينكشف السر بل دخل من خوخة صغيرة في الباب.
6- وحين دخل علي الصديق وجد معه ابنتيه أسماء وعائشة فطلب منه أن يخرجا فطمأنه صاحبه بأنهما أهل لحفظ السر فأبلغه الخبر .. ولك أن تتصور كيف ربي الصديق بنتيه في هذه السن الصغيرة علي حفظ السر الأخطر في مسيرة الدعوة وتكوين الدولة .
7- استمر النبي  يأخذ بالأسباب، فاتجه به الخبير إلي الجنوب تمويها علي القوم.
8- صعد النبي وصاحبه جبل ثور وبه أغوار كثيرة لكنه تخير غارا تتحقق فيه كل مواصفات الاختباء ففتحته موازية لأقدام المارة ، وهو مكون من صخرة مجوفة ليس بها إلا مكان لجالس ومكان لنائم وبها تهوية خلفية .
– ووزعت الأدوار علي أهل بيت الصديق : فأسماء عليها إحضار الطعام وعبد الله عليه أن يتحسس أخبار القوم وجهودهم ويخبرهما بها يومياً وعامر بن فهيرة عليه أن يطمس آثارهما بغنمه ويعطي لهما من ألبانها .
وبعد أن خفت حدة البحث كان قد مضي عليهما ثلاثة أيام ، انطلقوا في طريقهم إلي المدينة .
9- أخذ الصديق معه كل ماله ولم يترك لأهله سوي ما تركه الخليل إبراهيم لهاجر وإسماعيل ( وهنا يتجلى أثر هذا الجهد المخلص فيلحق بهم سراقة طمعاً فيما وعد به أهل مكة لمن يأتيهم بمحمد حياً أو ميتاً فتغوص أرجل فرسه في الرمال ثلاث مرات حتى أيقن أن هناك سراً إلهياً منعه وعاهده الرسول- إن حفظ سره– أن يلبس سوار كسري في يده يوماً ما وتحقق الوعد) .
هكذا تدخلت القدرة الإلهية بعد استنفاد الطاقة لنتعلم الدرس فقد كانت هجرته  وسيلة من وسائل الدعوة ، وليست خاصة به كرحلة الإسراء التي خرقت كل النواميس.
10-من دروس التخطيط النبوي أنه حين استقر به المقام في المدينة وبدأ في بناء الدولة اهتم بإرساء الأسس المنطقية لقيام دولة فتية ومنها :
أ‌) توحيد صف الأمة بأعراقها وأجناسها وألوانها تحت لواء الأخوة الإسلامية فعقد المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين بطريقة جعلت الأنصار تفرح وتسعد بتوفير وسائل الراحة والإقامة لإخوانهم المهاجرين : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة)(الحشر: من الآية9) وجعلت المهاجرين لا يثقلون علي إخوانهم الأنصار فيتجهون نحو العمل في التجارة ويقول أحدهم لأخيه الأنصاري : بارك الله في مالك وأهلك دلني علي سوق المدينة ويتاجر في الأقط حتى يصير من أغنياء الأمة .
ب‌) تأمين الدولة من شرور أعدائها المقيمين في المدينة وهم اليهود والمشركون بعقد معاهدة أطلق عليها صحيفة المدينة يلتزمون فيها بالدفاع عنها حين يدهمها أعداؤها من الخارج كما يلتزمون بتوحيد جهة التقاضي في الخصومات علي أن يكون ذلك لرسول الله  .
ت‌) بناء المسجد الجامع لتنطلق منه الدعوة كما تخرج منه الجيوش المدافعة عن هذا الدين وفيه مجلس القضاء ، وفيه مدارس التعليم وفيه رعاية الفقراء وفيه استقبال الوفود وبجواره حجرات النبي وزوجاته أي أنه حول المسجد إلي مقر الحكم وإدارة الدولة .
ث‌) متابعة حركات أعدائه وتخطيطاتهم ومؤامراتهم انطلاقاً من توجيهات القرآن الكريم بأن الباطل لن يهدأ في ملاحقة أهل الحق في قوله سبحانه: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(الحج: من الآية40) .
وكان ذلك عقب حديثه عن الإذن بالقتال لمن صبروا كثيراً علي أذى أعدائهم إذ كان قبل ذلك مباشرة قوله : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)(الحج 39 : من الآية40) . فكان يرسل العيون الفاحصة الأمينة لتتبع أخبار قريش التي شعرت من إفلات رسول الله من عقابهم بمهانة أصابت غرورهم ومكانتهم في الجزيرة فبدأوا يجمعون الأموال ويعدون العدة وينذرون أرباحهم من رحلة الشام لحرب رسول الله ومن معه الأمر الذي استدعي النبي إلي الخروج لقافلة أبي سفيان التجارية حين علم أنها وقود الحرب التي يخططون لها كانت غزوة الفرقان .
ج‌) تقوية إيمان الصحابة بتوالي التشريعات التي تعمق ارتباطهم بمبادئ دينهم وقيمه وأخلاقه ومعاملاته ، حتى لا يخافوا في الحق لومه لائم ولا يخشون إلا الله ، ولا ينكصون عن تبليغ دين الله لإخراج الناس من عبادة البشر إلي عبادة رب البشر فهم خلفاء الأنبياء وورثة الوحي المبارك إلي قيام الساعة .
وليتنا نضع هذه الأسس اليوم لإعادة بناء الدولة من جديد فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...