الطريق إلى إزاحة الكابوس

د. عصام العريان “من محبسه بالعقرب”:

 

مرَّ أكثر من أربع سنوات على كابوس الانقلاب الدموي في مصر، والذي أهدر إرادة أكثر من عشرين مليوناً من المصريين صوّتوا -لأول مرة في تاريخهم- لاختيار رئيس لمصر، ففاز الدكتور محمد مرسي بحوالي 52% من جملة الأصوات كأول رئيس مدني منتخب لجمهورية مصر العربية بحرية وشفافية.

جاء الانقلاب فعطّل الدستور الذي وضعته لأول مرة في تاريخ مصر جمعية تأسيسية منتخبة على درجتين، ووافق عليه 65% من جملة المشاركين في الاستفتاء عليه.

ومنذ 3 يوليو/تموز 2013 لم يذُق المصريون طعم الأمن والاستقرار وانخدعت نخب سياسية عديدة (أغلبها من النخب اليسارية والناصرية وقليل من الليبرالية) بوعود قائد الانقلاب حول انتخابات رئاسية مبكرة، وأعمتهم كراهيتهم للإخوان المسلمين وحلفائهم عن رؤية المصير المحتوم الذي يقودهم السيسي إليه: ففرض نفسه رئيساً في انتخابات صورية شكلية، وأصدر في أسابيع قليلة تشريعات عديدة أهدرت حقوق المصريين في تشكيل الجمعيات الأهلية والتظاهر السلمي، والإعلام الحر، والمعارضة السلمية، وفرض برلماناً أغلبية أعضائه من عسكريين سابقين ورجال شرطة ومخابرات، يُمرّرون له كل ما يريد تمريرَه من ملفات (ولو وصل الأمر إلى التفريط في أرض الوطن الذي أقسموا على احترام استقلاله وسلامة أراضيه!).

ولم يقتصر الأمر على إهدار الحريات والأمن والاستقرار فقط؛ بل كان الحصاد المرّ في كافة مجالات الحياة: فقد غرقت البلاد في الديون، فوصل الدين الخارجي إلى أكثر من 75 مليار دولار (بينما ظل خلال أربعين سنة “73 -2013” 35 ملياراً)، ووصل الدين الداخلي لأكثر من 3 تريليونات جنيه، وانهارت العملة المصرية، ففقدَ المصريون ثلثي مدخراتهم في غمضة عين! ولم تعُد للجنيه المصري أية قدرة شرائية، ووصل التضخم إلى أرقام غير مسبوقة على مدى المائة عام الماضية (أكثر من 40%)، وكانت النتيجة الحتمية هي تآكل الطبقة الوسطى التي يقوم على جهدها أي نشاط اقتصادي أو تنموي، وفرّ رجال الأعمال بأموالهم إلى الخارج، وانهارت الطبقات الدنيا في المجتمع إلى هوة سحيقة من الجوع والعوز والفقر، وكانت محصلة ذلك انهيار التماسك المجتمعي، واختلال منظومة القيم التي أرساها الدين الإسلامي والمسيحي، فظهرت جرائم خطيرة، وازدادت معدلات الانتحار، وانتشر الانحلال الخلقي والسلوكي بما يهدد بنية المجتمع المصري، الذي عرف اللهَ منذ فجر التاريخ.

وبفقدان الأمن والاستقرار في مصر تأثرت المنطقة العربية كلها، خاصة أن الانقلاب كان قد تم برعاية وتمويل خليجي، خشية انتشار الحرية والحياة الدستورية في بلادهم.. هذا بعد أن فشلت مساعيهم سابقاً، في منع الإطاحة بحسني مبارك إبان ثورة مصر العظيمة في يناير 2012 التي كانت زلزالاً هزَّ المنطقة بأسرها، وبشّر بفجر جديد لشعوبها التي انحازت إلى الربيع العربي، وانحازت لهويتها الإسلامية، فاختارت الإخوان المسلمين وحلفاءهم في كل ما أُجرِي من انتخابات حرة، بينما انحاز الانقلاب إلى الثورات المضادة في ليبيا واليمن ودعم بقاء الأسد في سوريا ضد إرادة شعوب تلك البلاد جميعاً، فانتشر انعدام الأمن والاستقرار إلى كلّ المنطقة.

لم يستسلم المصريون للقوّة القاهرة التي لم تتوقف عن جرائمها ضد الإنسانية طوال السنوات الأربع الماضية (مذابح بشعة أمام الحرس الجمهوري، وبعدها بأيام مذبحة أمام منصة الجنديّ المجهول، ثم مذبحة رابعة العدوية وميدان النهضة، ومذابح مسجد الفتح وشارع رمسيس، التي راح ضحيتها الآلاف من المصريين الأبرياء.. ثم التصفيات الجسدية لعشرات المعارضين على زعم اتهامهم بالإرهاب والاختفاء القسري للعشرات.. ثم السجون التي تمتلئ بأكثر من ستين ألفاً من المعتقلين والمعتقلات!).

ولا تزال مقاومة المصريين مستمرة، ولا يزال الإخوان المسلمون وحلفاؤهم صامدين ضد الانقلاب رغم كل التضحيات، وأصبح إزاحة كابوس الحكم الانقلابي أقرب مما يتصوره البعض مع استمرار ملحمة الصمود:
صمود مثّله شخص المرشد السابق محمد مهدي عاكف (90 عاماً) الذي رفض كتابة طلب الإفراج الصحيّ برغم الشيخوخة والأمراض الخطيرة التي أبقته محتجزاً في العناية المركزة شهوراً طويلة.

صمود يمثله شخص المرشد الحالي أ.د. محمد بديع (75عاماً) الذي يحاكم في أكثر من أربعين قضية، وحضر للآن ما يزيد على 65 جلسة محاكمة، وحكم عليه بالإعدام في أكثر من قضية، واستشهد ابنه عمار في مظاهرات شارع رمسيس 2013.

صمود يمثله شخص رئيس الجمهورية الشرعيّ المنتخب أ.د. محمد مرسي الذي يعاني الحبس الانفرادي منذ 4 سنوات، ويُمنع أهله أو محاميه من زيارته طوال تلك الفترة، ويحرم من الرعاية الصحية، رغم إصابته أكثر من مرة بغيبوبة سكر.

صمود يمثله ثبات شباب الإخوان وقادتهم وحلفاؤهم في سجون الظلم، برغم استشهاد العديد منهم نتيجة الإهمال الصحي، وتردي الأوضاع المعيشية [منهم د. فريد إسماعيل وأ. محمد الفلاحجي وم. عبد العظيم الشرقاوي (إخوان) والشيخ عصام دربالة (الجماعة الإسلامية)، والشيخان نبيل المغربي ومرجان سالم (الجهاد)، وغيرهم كثير].

***

لا يزال المصريون ينظرون إلى مؤسستهم العسكرية بمنظار يختلف عن باقي المؤسسات (الشرطة – القضاء – الإعلام – الخارجية..) لأهمية دورها القيادي في البلاد.

وهم يدركون أن قائد الانقلاب ومجموعة من القادة حوله قد استغلوا مبدأ الانضباط العسكري وروّجوا لخطر (وَهْم) سقوط الدولة الوطنية، وأشاعوا شعار الحرب على الإرهاب [الذي صنعوه هم بأنفسهم]، وخدعوا الناس به لفترة.. حتى أفاق الجميع بمن فيهم ضباط وأفراد الجيش وآخرون كثير على حقيقة المأساة الكبرى والكابوس الرهيب الذي ورطهم وورط البلاد فيه وسيطر على حياتهم.. وينتظر أغلب هؤلاء معجزة من السماء أو مخلصاً شجاعاً يقوم عنهم بمهمة الخلاص! بينما الحل الحقيقي في أيديهم هم.. وطريقه واضح وهو احترام إرادة الشعب الذي ينتمون إليه، ويعيشون بين أفراده، والعودة بالبلاد من جديد إلى مسار الحياة الدستورية الحقيقية، والانتخابات الحرة التي لا يُقصى عنها أي فصيل سياسي.. وإعادة اللُّحمة من جديد لنسيج الوطن الذي تمزق بسبب مشاركة رموز دينية وقضائية منذ إعلان الانقلاب في 3-7-2013.

***

لقد كان قراراً خاطئاً وتوريطاً للمسيحيين عندما شارك بطريرك الأقباط في بيان 3-7 (فهو زعيم ديني منتخب من الإكليروس ويمثلهم وليس مجرد موظف)..

ولقد كان انزلاقاً شديداً أن يشارك شيخ القضاة في نفس الإعلان، وهو ذروة أعمال السياسة التي يحرمها الدستور عليه، ناهيك عن قانون السلطة القضائية الذي يمنع القضاة من الاشتغال بالعمل السياسي.

***

وعلينا أن نعتمد إجراءات حاسمة للعدالة الانتقالية تصحح أخطاء القضاء والنيابة الذين تورطوا في العمل السياسي، ورضوا أن يكونوا في صفٍّ دون صفٍّ آخر، فاختل ميزان العمل في أيديهم.. إجراءات حاسمة تؤدي إلى معالجة فعالة لمآسي وجرائم الفترة السابقة.

وعلينا أن نعيد الاعتبار للعمل الأهلي من جديد لحماية الفقراء والطبقة الدنيا، وأن نعيد الثقة باستعادة الإرادة الشعبية حتى تعود رؤوس الأموال الهاربة، ويعود معها مزيد من الاستثمارات الخارجية.

علينا أن نبذل جهداً كبيراً لاستعادة اللُّحمة التي تمزقت بين أبناء الوطن نتيجة الانحياز السياسي ضد أكبر قوة سياسية في البلاد.

علينا بذل جهود كبيرة لنزع فتيل التوتر المجتمعي، ورغبات الانتقام التي تجتاح الشباب الذين رأوا أصدقاءهم يسقطون صرعى إلى جوارهم في المذابح المتكررة، أو في المظاهرات السلمية، أو في زنازين السجون.

وعلى المجتمع الدولي (خاصة أميركا وأوروبا) أن يدرك عظيم الخطر الذي وصلت إليه الأمور في المنطقة كلها بسبب سكوتهم وتشجيعهم أو رضاهم أو دعمهم للانقلاب الدموي، ولكل الثورات المضادة، ضد إرادة شعوب عربية، كل جريمتها أنها تريد العيش بحرية وأمن، وتنعم بتنمية واستقرار.. وتوقف نهب ثرواتها لحساب أقلية متحكمة دونما سند من دستور أو قانون!

لن نفقد الأمل ونهاية الانقلاب وشيكة، وكلنا ثقة في الله تعالى الذي أعطانا القوة والقدرة على المقاومة طوال 4 سنوات عصيبة.

وبعد الثقة في الله، نثق كذلك في مؤسستنا العسكرية أن تستيقظ على الخطر الذي يهدد الوطن في أرضه ومياه نيله واستقراره وتماسكه.

وإنني لأرى هذا الأمل دائماً في عيون زوجتي وبناتي وأحفادي الذين مُنعوا من زيارتي منذ عام، ولكنني أراهم على فترات متباعدة عبر الزجاج والأسلاك في جلسات المحاكم التي لا تتوقف منذ 4/11/2013 وحتى الآن، فأرى في عيونهم الرضا والصبر واليقين في نصر الله الموعود، وقرب انكشاف الغمة، وزوال الكابوس عن مصر كلها، كابوس الانقلاب، وهم في ذلك يمثلون لي جميع المصريين الذي يتطلعون إلى غدٍ مشرق، وحياة حرة كريمة في وطن كريم.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...