الرحمة .. من أخلاق الإسلام

من أخلاق الإســـلام \” الرحمة \”

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي خاتم النبيين ورحمة الله للعالمين سيدنا محمد ،وعلي آله وأصحابه أجمعين .. وبعد ،،،
الرحمة لها مكانة كبرى في الإسلام ، ففيها يتركز هدف الرسالة الإسلامية . قال تعالي : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) والقرآن الكريم حينما حدد هدف الرسالة الإسلامية بالرحمة لم يجعلها خاصة بالأهل أو بعشيرة وإنما جعلها شاملة لكل العوالم في ملك الله .
ولم يكتف الإسلام بالحث عليها بل عدها ثمرة إسلام الوجه لله وعنصراً من عناصر شخصية المسلم قال  : { لا تنزع الرحمة إلا من شقي } \” رواه أبو داود و الترمذى وابن حبان \” .
وذلك لأن الأعمال الإنسانية الراقية لا تصدر إلا من مبادىء للفضيلة وقواعد للنجاة وأول معالم الفضيلة \” الرحمة \” فما هي ؟ وما أدلتها ؟ وأنواعها ؟ وثمراتها ؟

أولاً: ماهية الرحمة :
الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلي المرحوم ، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة نحو : رحم الله فلانا .
والرحمة عن الصفات التي يوصف بها الله جل وعلا ، ويوصف بها العبد ، فإذا وصف بها الله عز وجل فليس يراد بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة ، ومن ثم كان معناها : الصفة التي بها الإنعام والتفضل والإحسان .
وإذا وصف بالرحمة العبد فلا يراد بها إلا الرقة المجردة ، وكان معناها : الرقة في القلب والتعطف . أنظر \” المفردات للأصفهاني مادة الرحم \”

ثانياً : الأدلــة علي الرحمة :
أ‌) وردت في القرآن الكريم مئات الآيات التي تبشر بالرحمة وتذكر بها منها قوله تعالي : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(الأنعام: من الآية54) ، وقوله تعالي : ( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ )(الأنعام: من الآية133) ، وقوله تعالي 🙁 فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ )(الأنعام: من الآية147) ، وقوله تعالي 🙁 إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(لأعراف: من الآية566) ، وقوله تعالي 🙁 وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(لأعراف: من الآية151) .
ب‌) ومن السنة : ما رواه أبو داود و الترمذى وصححه [ الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ] .
وما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان براوية أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال : سمعت رسول الله  يقول : { جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه } رواه البخاري ومسلم أيضاً وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله : \” يا أنس وقر الكبير وأرحم الصغير ترافقني في الجنة \” رواه البيهقي شعب الإيمان .
ج) ومن الأدلة علي هذا الخلق إجماع العلماء سلفاً وخلفاً علي وصف الله تعالي بالرحمة وأنها صفة من أجل الصفات الإنسانية الممدوحة في الإسلام لما يترتب عليها من إسداء الخير إلي الناس والعناية بهم .
ثالثاً : أنواع الرحمة :
الرحمة لها ثلاثة جوانب : الأول : كونها صفة لله تعالي ، والثاني : كونها صفة للرسول  ، والثالث : كونها مبدءاً إسلامياً عاماً :
• فأما كونها صفة لله تعالي فهي مطلق الإنعام والتفضيل و الإحسان منه إلي الخلق ، فهي رحمة شملت الوجود وعمت الكون . فحيثما أشرق شعاع من علمه المحيط بكل شيء أشرق معه شعاع للرحمة الغامرة ، ولذلك كان من صلاة الملائكة له تعالي : ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)(غافر: من الآية7) ولقد سمي الله تعالي نفسه الرحمن والرحيم وبدأ كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم ، وطلب إلينا حينما نشرع في عمل ، أو نبدأ في أمر من أمور الخير أن نسمي الله تعالي .

ولقد كان رسول الله  يذكر أصحابه بذلك دائما ، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قدم علي رسول الله بسبي فإذا امرأة من السبي تسعي قد تحلب ثديها ، إذا وجدت صبياً أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته . فقال رسول الله  : { أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ قلنا : لا والله – وهي تقدر علي أن لا تطرحه ، قال : [ فالله تعالي أرحم بعباده من هذه بولدها ] رواه البخاري – وفي الحديث القدسي \” { إن رحمتي غلبت غضبي } مسلم \” أي أنه تعالي يتجاوز عن خطايا البشر وتجاوزه بسيف اقتصاصه منهم وسخطه عليهم وبذلك كان جل وعلا أفضل الرحماء \” . قال تعالي : ( وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (المؤمنون:118) * وأما كونها صفة للرسول  فلأن الله تعالي أراد أن يمتن علي العالم برجل يمسح آلامه ، ويخفف أحزانه ، ويرثي لخطاياه ، ويستميت في هدايته ، ويناصر الضعيف ، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها ، فأرسل محمداً  وسكب في قلبه من العلم والحلم ، وفي خلقه من الإيناس والبر ، وفي طبعه من السهولة والرفق ، وفي يده من السخاوة والندي ، ما جعله أزكي عباد الله رحمة ، وأوسعهم عاطفة ، وأرحمهم صدراً قال تعالي : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(آل عمران: من الآية159) .

وقد لازمته الرحمة في أعصب الساعات عندما حاول المشركون في أحد اغتياله وطلب منه أبو بكر أن يدعو عليهم فقال له : [ إني لم أبعث لعاناً ولكني بعثت هادياً ورحمة ] رواه مسلم وكيف لا والله تعالي قال له: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) .
* وأما كونها مبدءاً عاماً : ذلك لأنها لا تقتصر علي رحمة الإنسان بنفسه أو ولده وإنما هي رحمة عامة ، رحمة الأزواج والأولاد ، رحمة بالأهل والأباء والأمهات ، رحمة بالإنسان والحيوان ، والنبات والجماد . وحين تحدث النبي عليه الصلاة والسلام عن الرحمة ، فقال بعض الصحابة رضوان الله عليهم : ( إننا نرحم أزواجنا وأولادنا وأهلينا ) فلم يرض هذا القول رسول الله  ولذلك قال : [ ما هذا أريد إنما أريد الرحمة العامة ] أي الرحمة الشاملة التي تعم البشرية بأكملها ، وتتجاوزها إلي العوالم الأخرى . قال  : [ لن تؤمنوا حتى ترحموا ، قالوا : يا رسول الله كلنا رحيم . قال : إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ، ولكنها رحمة العامة ] الطبراني .
ومن مظاهر الرحمة :
أ) الرحمة بالنفس بإنقاذها من هلاك المعصية ، والأخذ بها إلي نعيم الطاعة ، قال تعالي : ) وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ )(لأعراف من الآية156 : من الآية157) وقال تعالي : (ربنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)(غافر: من الآية7) .
ت‌) الرحمة بالآباء والأمهات قال تعالي : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء:24) .

ث‌) الرحمة بالزوجة قال تعالي : ( وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(الروم: من الآية21) .

ج‌) الرحمة بالأبناء فعن أبي هريرة  قال : ( قبل رسول الله الحسن والحسين بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمى ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً قط ! فنظر إليه رسول الله وقال : [ من لا يرحم لا يرحم ] وفي رواية [ أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك ] \” رواه البخاري \” ولكنها رحمة تأخذ طابع القسوة أحياناً علي الأولاد حتى لا تأخذهم الأهواء ويقتلهم اللهو واللعب ، ومن ثم فليست الرحمة مع الأبناء حناناً لا عقل له ، أو شفقة تتنكر للعدل قال الشاعر :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحيانا علي من يرحم هـ) الرحمة باليتيم والمسكين والمريض – فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شكا إلي رسول الله قسوة قلبه فقال : \” امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين \” رواه أحمد وفي رواية قال له : ( أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك ، يلن قلبك وتدرك حاجتك ) \” الطبراني \” وكذلك الرحمة مع المريض الذي قيدته العلة قال تعالي 🙁 لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ )(النور: من الآية611) .

و) الرحمة بالخدم فعن ابن مسعود البدرى قال : كنت أضرب غلاماً لي بالسوط فسمعت صوتاً من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود . فلم أفهم الصوت من الغضب ، فلما دنا مني إذا هو رسول الله  فإذا هو يقول : [ اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك علي هذا الغلام ] فقلت : يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالي ، فقال : ( أما لو لم تفعل للفحتك النار ) رواه مسلم .

د) الرحمة بالحيوان : \” رأي عمر رضي الله عنه رجلاً يسحب شاه برجلها ليذبحها فقال : ويلك قدها إلي الموت قوداً جميلاً \” وكيف لا والإسلام شدد المؤاخذة علي من قست قلوبهم علي الحيوان واستهانوا به فقال  : [ دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ] البخاري

. وقال رجل : يا رسول الله إني لأرحم الشاه أن أذبحها فقال : ( إن رحمتها رحمك الله ) رواه الحاكم . بل كانت الرحمة بالحيوان سبباً في غفران الذنب لبغي .
روي مسلم في صحيحه : ( أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر ، قد أدلع لسانه في العطش ، فنزعت له موقها – أي خفها – فغفر لها به ) .
ز) ومن مظاهر الرحمة : الرحمة بالأرحام وصلتهم قال  : ( الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله عز وجل عليه الجنة ) رواه أحمد والحاكم .

فصلة الرحم سبب لرحمة الله بالعبد قال تعالي : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(النساء: من الآية1) .
وفي الخبر ( القاطع لرحمه ملعون ) وبرهان ذلك قول الله تعالي : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد 22 :23) .
رابعاً : ثمرات الرحمة : ما من شك في أن الرحمة شعار وشعور هذه الأمة تصدر عنها أعمال إنسانية تعم العالم كله فلا مكان للقاسية قلوبهم إلا الطرد من رحمة الله تعالي والخلود في دار الويل ، إذ إن الرحمة لا تنزع إلا من شقي ، ولخلق الرحمة أثار وثمار منها ما يلي :

1) الكف عن الاعتداء علي دماء الناس وأموالهم وأعراضهم ، لأن رحماء القلوب لا يؤذون غيرهم ، إلا إذا كان الغير مصدر خطر علي الدين ، ومثار تهديد لكيان الأمة قال تعالي : ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(الفتح: من الآية29) .

2) تأدية ما فرضه الله تعالي علي الإنسان من زكاة مال أو إنقاذ نفس معصومة من الهلاك ، لأن الرحماء لا يستطيعون أن يروا إخوانهم في الإنسانية يتضورون جوعاً ويشمون عراة وهو ممتنع بالمال الزائد عن حاجته وحاجة من يعول .
ومن النماذج الرائعة ما رواه مسلم : ( إن الله عز وجل ، يقول يوم القيامة : يا أبن آدم مرضت فلم تعدني قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ؟! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟ …… ألخ ) .

3) إغاثة الملهوف وإعانة المكروب قال  : ( علي كل مسلم صدقة قيل : أرأيت إن لم يجد ، قال : يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق ، قال أرأيت أن لم يستطع ؟ قال : يعين ذا الحاجة الملهوف …..) رواه البخاري ومسلم .

4) تبعث الرحمة علي مواساة الجار وحمل همه قال  ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلي جاره ) \” رواه مسلم \” ، وقوله  : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ….. ) مسلم .

5) الرحمة تبعث إلي مواساة اليتيم وكفالته ومعونة الأرامل ( أنا وكافل اليتيم في الجنة ) رواه البخاري .

6) صفة الرحمة تدفع إلي كل الفضائل الإنسانية وتقضي علي صاحبها بأن يؤدي للناس ما يجب عليهم نحوه قال  : ( ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ) رواه أحمد .
ولئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا ، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب ويكفي صاحبها فخراً أو شرفاً أنه يكون في رحمة الله تعالي .
قال تعالي : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (لأعراف:151) وعند البخاري ومسلم ( من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ) .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...