مذبحة الأمراء.. أكذوبة محاربة الفساد

بقلم: قطب العربي

 

تعاطفت كثيرا مع المشايخ والدعاة الذين قبضت عليهم السلطات السعودية وأودعتهم السجن، وهم أهل لكل حب وتقدير؛ لأدوارهم العظيمة في الدعوة والإصلاح داخل المملكة وحتى خارجها، ولكني لم أتعاطف البتة مع الأمراء والوزراء وكبار المسؤولين الذين أطاح بهم الأمير محمد بن سلمان، وألقى بهم في غياهب السجون أيضا؛ بدعوى محاربة الفساد.

 

فقد كان القوم غارقين في الفساد، شأن غيرهم من بقية المسؤولين، كما كانوا مثل غيرهم من كبار داعمي الفساد والاستبداد داخل المملكة وخارجها.. وهل لمثلنا أن ينسى دورهم جميعا في دعم انقلاب السيسي في الثالث من يوليو 2013؟!! وهل ننسى مسارعتهم لتقديم المعونات لنظامه حتى يواجه الغضب الشعبي ضده، وحتى يقتل المزيد من المصريين؟! وهل ننسى دور قنواتهم (MBC والعربية وROTANA وART) في تسويق الكذب والتضليل لشعبنا مع غيرها من قنوات الإمارات؟!

 

هل يعقل أن هيئة رسمية لمكافحة الفساد تأسست قبيل ساعات تمكنت من حصر وتحقيق وقائع الفساد المنسوبة للموقوفين؟

 

ورغم عدم التعاطف مع هؤلاء المسؤولين والأمراء، إلا أنني مشفق على كل الذين هللوا لتلك القرارات، واعتبروها ثورة تصحيح ضربت رموز الفساد في المملكة! فالأمر ليس كذلك على الإطلاق، حتى وإن كانت تلك الأسماء ضالعة فعلا في فساد، على الرغم من أن كثيرين منهم تم تعيينهم عقب تولي الملك سلمان.

 

فهل يعقل أن هيئة رسمية لمكافحة الفساد تأسست قبيل ساعات من تلك القرارات، برئاسة ابن سلمان، تمكنت من حصر وتحقيق وقائع الفساد المنسوبة للموقوفين قبل أن تصدر قراراتها؟ وما مفردات هذا الفساد؟ ومتى وكيف وقع؟! إلى آخر هذه الأسئلة التي لا تجد إجابة؛ لأن الموضوع مختلف تماما.

 

ما حدث هو فعل سياسي بامتياز؛ استغل واجهة محاربة الفساد للتمكين للأمير الشاب، وصناعة أسطورة منه، وتكريس صورة الرجل القوي باعتباره رامبو المملكة، أو البلدوزر، كما يصفه أنصاره. وما فعله ابن سلمان عشية السبت هو بمثابة “ذبح القطة” لكل المسؤولين والأمراء في المملكة، والتأكيد لهم أنه الرجل القوي الذي لن يستطيع أحد أن يقف في وجهه، وفي وجه طموحاته ومشروعاته، مهما كانت عديمة الجدوى، أو مهما كان ضررها على الوطن والمواطن.

 

قرارات وتغييرات متتالية هدفها التمكين للأمير داخليا، بحسبانه الملك الفعلي، وإقليميا ودوليا بحسبانه زعيم العرب الجديد، بل زعيم التحالف السني الصهيوني لمواجهة إيران وحلفائها؛ الذي يجري الترتيب له حاليا.

 

ففي الداخل أصبح الأمير هو صاحب القرار، وهو قائد عاصفة الحزم، وصاحب رؤية المملكة 2030، وصاحب مشروع نيوم الاقتصادي الذي تقدر استثماراته بـ500 مليار دولار، وقائد معركة القضاء على الفكر الوهابي المتشدد.

 

وفي الخارج، فإن الأمير الشاب هو صاحب الرؤى الجديدة للملكة في القضايا الإقليمية والدولية، مثل الأزمة السورية والعراقية والليبية.. إلخ. ولعل مشهد إعلان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالة حكومته من الرياض، وليس من بيروت، مؤشر جديد على الدور الإقليمي الذي يريد الأمير لعبه، إذ جاء هذا الإعلان بالمخالفة الواضحة لكل الأعراف السياسية العالمية، ومن الواضح أنه تم بترتيب سعودي بهدف خلط الأوراق في لبنان؛ تمهيدا لترتيبات في بطن الأمير، أو أمام ناظريه مقدمة من جهات أخرى، في إطار تسويات وترتيبات إقليمية جديدة تستهدف تقليص دور إيران، وتعزيز الدور السعودي، أو استرداده لبعض مناطق نفوذه، أو حتى مقايضة إيران ذاتها على مناطق النفوذ، عبر تنازلات متبادلة بطريقة “سيب وانا أسيب”. وستدور هذه التبادلات على مناطق نفوذ في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، وغالبا ستضغط السعودية لتشمل هذه التسويات االإقليمية الملف القطري.

 

فجائية التغييرات السعودية، واستقالة الحريري بلا مقدمات، ظاهرة تنبئ عن الحصول على ضوء أخضر مفاجئ لإنجاز هذه التغييرات؛ من واشنطن التي قبضت الثمن مقدما (460 مليار دولار) خلال زيارة الرئيس الأمريكي ترامب لململكة في العشرين من مايو الماضي. وهذا المبلغ الذي أبهر ترامب وجعله يبشر مواطنيه بأنه عاد من السعودية بالمزيد من الاستثماررات وفرص العمل؛ كان من الواضح أنه ثمن لتمكين ابن سلمان داخليا ودعم أي قرارات له، وكذا منحه دور أكبر على الصعيد الإقليمي، ولن يخرج هذا الدور على العموم عن التبعية للسياسة الأمريكيية، وتنفيذ توجيهاتها في المنطقة.

 

ولسوء حظ الأمير الذي يريد أن يقدم نفسه باعتباره الرجل القوي، أو “البلدوزر”، أن صاروخا يمنييا باليستيا اخترق سماء المملكة وسقط في محيط مطار الملك خالد في الرياض، قبيل ساعات قليلة من إعلان قراراته، وهو تطور عسكري مخيف، فهذه أول مرة تصل الصواريخ الحوثية إلى قلب الرياض. وهذا الصاروخ الباليستي بعيد المدى (بركان H2) الذي يصل مداه إلى 1400 كيلومتر؛ أصبح متوفرا بيد الحوثيين، ما يعني احتمالات إطلاقه مجددا على أهداف أخرى في المملكة. وحتى إذا استطاعت الدفاعات الجوية السعودية أن تعترض بعض هذه الصواريخ، فإن بعضها قد يصل إلى أهدافه.

 
لن تنطلي على أي عاقل حجة محاربة الفساد تبريرا للإطاحة بالأمراء والوزراء وكبار رجال الأعمال والإعلام في المملكة. فمحاربة الفساد الحقيقية تتطلب دستورا مكتوبا، وتتطلب برلمانا منتخبا، وتتطلب وجود أحزاب ونقابات وجمعيات نشطة، وتتطلب مجتمعا حرا، وتتطلب شجاعة في محاسبة من هم أكبر من هؤلاء الأمراء، وهو ما لن يقبل ابن سلمان به في مملكته.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...