أليس منكم رجل رشيد؟

بقلم: د. عصام العريان
“عشرات الآلاف من المعتقلين في مصر يُعاقبون بالحبس الاحتياطي”
إضراب شامل عن الطعام والشراب والدواء أعلنه أ. عصام سلطان المحامي ونائب رئيس حزب الوسط في جلسة المحكمة في القضية المعروفة إعلاميا بفض رابعة، والتي انعقدت في 17- 10- 2017، وذلك احتجاجا على استمرار حبسه لمدة تزيد على أربع سنوات.
وصف المحامي “سلطان” وضعه القانوني وكذلك وضع غالب المتهمين في القضية (340 متهما) بأنهم مخطوفون، حيث تنطبق أركان جريمة الخطف عليهم (عدا المحكومين في قضايا أخرى وهم 15 متهما فقط)، وانقضى أسبوع كامل ظهر أ. عصام سلطان بعده في الجلسة التالية 24- 10- 2017، وهو يكاد يسقط من الإعياء في حالة صحية متدهورة نتيجة الإضراب، انخفضت نسبة السكر في دمه لأقل من 45.
أراد سلطان بهذا الإجراء القاسي والخطير فيما يبدو أن يدق ناقوس الخطر، وأن يعلق الجرس في رقبة القط ليلفت أنظار القضاة والساسة والأحرار في مصر والعالم أجمع إلى الوضع الشاذ والعوار الواضح الذي تعانيه منظومة القضاء تحت حكم الانقلاب، وتحديدا ما يتعلق بالحبس الاحتياطي وأوضاع السجون في مصر المحروسة، ولكن لقد أسمعت إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي!! ولماذا يأبه الانقلاب وأدواته لإضراب أو حتى موت – لا قدر الله – سياسي مصري مرموق احتجاجا على إساءة تطبيق القانون أو بتعبير أدق عدم تطبيق القانون .
هذا هو حال عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين وليس عصام فقط، تحت اسم زائف هو الحبس الاحتياطي وما ذلك إلا ليتسنى لقائد الانقلاب ورجاله أن يتبجحوا في الرد على أسئلة المراقبين والمحللين ويؤكدون أنه لا يوجد في مصر معتقل سياسي واحد!! في أسوأ توظيف للتشريع المصري والقضاء المصري والنيابة العامة المصرية بما يقضي على سمعتها جميعا وعلى حيدتها جميعا.
مثال صارخ آخر في نفس السياق: الدكتور صفوت عبدالغني القيادي البارز في حزب البناء والتنمية المحبوس احتياطيا! منذ ما يقرب من أربع سنوات على ذمة قضية تحالف دعم الشرعية، والتي أُخلي سبيل جميع المتهمين فيها عداه هو وزميله في الحزب د. علاء أبو النصر. أعلن الدكتور صفوت إضرابا مفتوحا عن الطعام إثر تعرضه لمهزلة جديدة تلصق زورًا بمنظومة القضاء والعدالة وهي منها براء!!، ضرب د. صفوت ود. أبو النصر خلال السنوات الأربع الماضية الرقم القياسي في عدد مرات إخلاء السبيل التي حصلوا عليها في القضية سالفة الذكر (7 مرات إخلاء سبيل) من المحكمة في دوائر مختلفة، وفي كل مرة تستأنف النيابة على قرارات إخلاء السبيل أمام دوائر الإرهاب التي تأمر بتجديد حبسهما مرة أخرى، حتى استدعى من سجنه إلى نيابة أمن الدولة العليا ليفاجأ بالتحقيق معه في قضية جديدة، وهي القضية 316 لسنة 2013!! التي خرجت بنزغ شيطان وليس بقدرة قادر كما يقال من الأضابير فجأة لتواري سوءة النظام، سوءة اسمها الحبس الاحتياطي لمدة أربع سنوات!! ليعلق صفوت عبدالغني إضرابه عن الطعام ويُنقل بعدها بيومين من سجن شديد الحراسة “العقرب” إلى مستشفى ليمان طره ولا يزال هناك للآن!.
كيف تحول الحبس الاحتياطي من إجراء احترازي إلى عقوبة مغلظة دون حكم قضائي؟ الحبس الاحتياطي إجراء احترازي من سلطة النيابة والمحاكم خشية هروب المتهم والتأثير على سير التحقيق، وكما يصفه الفقه القانوني إجراء بغيض؛ لأنه ضد البراءة الأصلية التي يتمتع بها المواطن وحيثما وجدت الأنظمة المستبدة حيث يخضع القضاء والنيابة للسلطة التنفيذية يتحول الحبس الاحتياطي إلى عقاب خارج القانون !!
في عام 2006 وأثناء مناقشة تعديلات مقترحة على قانون الإجراءات الجنائية طرح نائب الإخوان المسلمين المحامي البارز أ. صبحي صالح “المحبوس حاليا” أوضاع بعض من التقاهم داخل السجون فاقت مدة حبسهم الاحتياطي سبع سنوات!! .
وقتها تعجب فتحي سرور رئيس المجلس “أستاذ القانون الجنائي” وأنكر وجود ذلك بالكلية وعجزت الحكومة وقتها عن الرد، وكان تعديل جوهري لقانون الحبس الاحتياطي أبرز معالمه:
1- وضع سقف لمدة الحبس الاحتياطي لا يزيد عن سنتين
2- حق المحبوس في استئناف قرار النيابة أمام إحدى دوائر الاستئناف ووجوب تسبيب قرار النيابة مع حق الأخيرة في استئناف واحد (على عكس القواعد المستقرة، احتياطيا دون إحالة للمحاكمة واستمر العمل بالقانون حتى وقع الانقلاب الدموي في 2013، والذي أصدر ما يزيد على 300 قانون وتعديلات على قوانين تتيح له إحكام السيطرة على البشر ومصادرة حريات المواطنين في غيبة أي مجلس نيابي، وحينما أكمل فصلا آخر من فصول المسرحية الهزلية فأجرى انتخابات برلمانية شهد القاصي والداني بعوارها، وفي غيبة القوى السياسية الكبرى “بصم” أولئك الذين احتلوا مقاعد النواب على كل القوانين الـ300 دون كلمة رفض خلال الأيام الأولى من عمر المجلس اللقيط!!
ومع الوقت ولأن البعض أصبحوا ملكيين أكثر من الملك، فقد تبارى هؤلاء في إصدار المزيد من التشريعات التي قيدت العمل الأهلي، وألغت كثيرا من الحقوق الأساسية التي كفلتها الدساتير المصرية المتعاقبة، وكان منها -وهو ما يعنينا في هذا المقال – التعديل الذي صدر على قانون الحبس الاحتياطي الذي يعطي محكمة الموضوع التي أحيلت إليها قضية من محكمة النقض بتجاوز مدة السنتين في الحبس الاحتياطي فقط (أي أن المدة المقررة للحبس الاحتياطي أمام النيابة وأمام محاكم أول درجة لا تزال 6 شهور للجنح وسنتين للجنايات حتى تلك المطلوب فيها بإعدام المتهم)، ومع ذلك فإن أغلب المحبوسين احتياطيًا في سجون مصر حاليًا قد تجاوزوا تلك المدة بسنوات.
أما عن معاملة المحبوس احتياطيا داخل السجون فحدث ولا حرج، فلقد تم مصادرة جميع الحقوق التي كفلها الدستور، والتي تضمنتها القوانين واللوائح، وأصبحت المعاملة تتم بناء على التعليمات الشفوية التي تتغير من شهر لشهر ومن أسبوع لأسبوع ومن يوم ليوم ومن ساعة لساعة، وهي صادرة بالطبع من الرئاسة والمخابرات الحربية والمخابرات العامة والأمن الوطني وأخيرا مصلحة السجون (إن بقي لها دور).
وخذ مثالاً: سجن العقرب (حيث لا حقوق للسجين أصلا) غالبية النزلاء هم من المحبوسين احتياطيا لذلك تعددت محاولات الهروب بسبب التعذيب والقسوة ومصادرة حقوق المحبوسين، وقد تحدث أ. عصام سلطان عن التعذيب ومفهومه حين جادله ضباط السجن في تصور عجيب من قِبلهم عن مفهوم التعذيب، اختزلوه في الاعتداء الجسدي المباشر مثل الضرب والتعليق والصعق بالكهرباء في أماكن حساسة، وكأن الحرمان من العلاج والإهمال الطبي المتعمد ليس تعذيبًا وما يؤدي ذلك إلى حالات الوفاة المتكررة (د. فريد إسماعيل، وم.عصام دربالة، وأ.نبيل المغربي، والشيخ مرجان سالم وغيرهم)، وكأن الحرمان من النوم بسبب أسراب البعوض المتوحشة التي تنشأ وتترعرع على مياه الصرف الصحي التي تحاصر المحبوسين من كل مكان ببعوضها وروائحها الكريهة ليس تعذيبا!!، وكأن الحرمان من زيارة الأهل (أكثر من ثلث سكان العقرب محرومون من الزيارة لفترات تصل إلى سنة كاملة)، وكأن مصادرة الأطعمة من الزيارات ومنعها عن المحبوسين ليست تعذيبًا، وكأن حملات التفتيش والتجريد التي تتم بغرض التكدير وتستولي على كل ما تجده من متعلقات المحبوس التي اشتراها بماله من كانتين السجن بما فيها الأطعمة والأدوية والملابس والكتب الدراسية ليس تعذيبا، وكأن نزع المراتب والمخدات والحرمان من تشميس البطاطين ولو على فترات متباعدة لتطهيرها والوقاية من الأمراض الجلدية ليس تعذيبا، وكأن الحرمان من التريض لما يقرب من عام والبقاء 23 ساعة داخل الزنزانة وساعة واحدة داخل الأنبوبة “الممر” وعدم رؤية الشمس أو شم نسمة هواء نظيفة غير ملوثة لفترة قاربت السنة ليس تعذيبا!! وكأن الوقاية من الأمراض وإهمال علاج الحالات الطارئة ليس تعذيبا وكأن.. وكأن.. ساء ما يحكمون.
إن إساءة استخدام قانون الحبس الاحتياطي والتغول في تنفيذه والتوظيف السياسي له للتضييق على الخصوم إنما هو انحراف بالسلطات جميعا قد لا يكون مسئولية منفردة لطرف واحد بعينه.. فعلى من تقع المسؤولية؟
أولا: هل تقع المسئولية على قائد الانقلاب ومجموعاته الوزارية والرئاسية فقط؟
ثانيا: أم تقع كذلك على النيابة العامة التي حولت الحبس الاحتياطي إلى عقوبة والتي لا يتوقع أنها تقوم بواجبها في التفتيش على السجون أو التحقيق في البلاغات المقدمة إليها عن انتهاكات السجون!!
ثالثا: أم تقع على القضاة الذين قد ينتهكون القانون سواء عند تجديد الحبس الاحتياطي أو أثناء نظر القضايا، حيث أن إخلاء سبيل المتهمين على ذمة القضية هو من صميم سلطتهم التقديرية (وتكفي حالة المغفور له مهدي عاكف الذي أصر القاضي على استمرار حبسه برغم مرضه العضال وحالته السيئة والتقارير الطبية المحايدة تؤكد أنه في مرض الموت حتى لقي ربه شهيدا.. ألا تكفي هذه الحالة الصارخة مثالا؟!!
رابعا: أم تقع كذلك على الأمن الوطني الذي نصب نفسه قيما على حماية بيضة الانقلاب وليس على أمن الوطن كما يشير اسمه، والذي يضيف بشكل يومي العشرات والعشرات إلى قائمة سجناء الرأي والمحبوسين احتياطيا في قضايا سياسية ويصنع العنف صناعة ويدخل البلد كله في دائرة جهنمية لا تنتهي !!
خامسا: أم تقع على عاتق مصلحة السجون كذلك؟ بما تخلت عن مسئوليتها المباشرة في إدارة كل ما يتعلق بالسجون وسمحت بتدخل كل الأجهزة النافذة الأخرى من خارج وزارة الداخلية ومن داخلها، بل وجعلت من نفسها مخلب قط تتلقى وتنفذ تعليمات الانقلابيين حتى لو أدى الأمر إلى هلاك النزلاء!!
سادسا: وهل تخرج فئة من الإعلاميين من دائرة الاتهام؟ أولئك الذين لا يتوقفون عن التحريض والتهييج ضد كل شريف في هذا الوطن أو ضد كل معارض.. ووضع الجهات التي يفترض حيدتها في التنفيذ مثل مصلحة السجون وغيرها.. دائما في موقف المتهم بالتعاطف أو التواطؤ مع أعداء الانقلاب في سياسة مكشوفة للابتزاز الرخيص!!
سابعا: وهل يمكن استبعاد فئة شاذة ممن يحشرون أنفسهم ظلما ضمن زمرة الحقوقيين، وهم في حقيقة الأمر أبعد ما يكونون عن هذا الاسم، هؤلاء الذين سخروا جهدهم للدفاع عن انتهاكات حقوق السجناء ولتجميل وجه الانقلاب القبيح في داخل مصر ولدى المؤسسات الدولية؟!
ثامنا: أليس منهم كذلك زمرة من السياسيين الذين استمرؤوا خداع أنفسهم وخداع الآخرين وقرروا أن يركبوا مع الانقلاب في نفس المقصورة حتى نهاية الرحلة إلى الهاوية! وفي حين أفاق زملاؤهم الذين خُدعوا حينا بالانقلاب أو دفعتهم كراهيتهم للحركة الإسلامية إلى دعم الانقلاب، لكنهم أبصروا المصير المظلم فأدركوا حقيقة الخديعة.. فلهذه الفئات الثمانية أقول أليس منكم رجل رشيد؟ أما لكم من أوبة؟ أما لجوركم من نهاية؟
ويبقى الأمل دائما بعد الله تعالى في الشعب المصري الواعي، قد تنخدع بعض فئاته بشعارات الزيف، ولكنه دائما واع وسريع الفيء للحق. قد يُلجم بعض فئاته حينا بدافع الخوف من البطش والظلم، لكنه أبدا شعب أبيّ، قد يتغافل حينا لكن ساعة الحساب واقتضاء الحقوق ممن ظلمه عسيرة، ولعلها قريبة بإذن الله.
ومن يدري، فربما يكون الحبس الاحتياطي وغيره من الأدوات الرخيصة الهابطة التي يلجأ إليها الانقلاب المفلس، ربما كانت هذه الأدوات على ما تحمله للمحبوسين من معاناة وما فيها من قسوة دافعا خفيا لإذكاء المشاعر وشحذ الهمم لفضح القهر والظلم وسرقة حلم الشعوب الكريمة في الحرية والعيش والكرامة الإنسانية.
x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...