غضبة الشعوب وهوان الحكام

لا تزال القدس تفتح الملفات، الملف تلو الآخر، لتشكل قضية كاشفة على المستوى العربي وعلى مستوى الشعوب وحكامها، ولتعبر في كل مرة بأن القدس هي بحق ميزان المقاومة، وهي مقياس لقوة الأمة وعزتها ومكانتها، كما هي علامة على ضعفها ووهنها وهوانها.. قضية القدس، خاصة بعد قرار “ترامب” المأفون، إنما تشكل في حقيقة الأمر؛ اختبارا شديد القوة للشعوب والحكام على حد سواء. ذلك أن القدس ظلت دائما قضية جامعة لا تعرف الاختلافات الإيدلوجية أو الدينية، بل هي تشكل موطن تجمع هذه الأمة بكافة أطرافها، خاصة إذا ما طالها ذلك الانتهاك الكبير الذي تمثل في إهداء “ترامب” ببلطجة منقطعة النظير القدس للكيان الصهيوني، وفي سياق عبر عنه البعض بوعد “ترامب” بعد وعد “بلفور” بمئة عام، وأن كليهما تنطبق عليه القاعدة أن “من لا يملك أعطى لمن لا يستحق”.

أما عن غضبة الشعوب، فلا بد هنا أن نشير إلى أهل فلسطين الذين هبوا جميعا في كل مكان.. في القدس نفسها، وفي الضفة الغربية، وحول المسجد الأقصى، بل وفي غزة المحاصرة، ليعبروا عن غضبة عارمة؛ تشكل في حقيقة الأمر بوادر تكوّن حالة غضب عامة، ربما تدشن لانتفاضة جديدة. وهنا في حقيقة الأمر؛ لا نستبعد تلك الانتفاضة، فإن الانتفاضة الثانية حينما دخل “إرئيل شارون” المسجد الأقصى مدنسا حرمته.. كانت تلك الانتفاضة الكبرى التي استمرت سنوات، وعبّرت عن نفسها في تحد ومقاومة تعبر عن حقيقة هذا الشعب الذي يُتهم من بعض المتصهينين؛ حينما يتحدثون عن أهل فلسطين ويتهمونهم ببيع الأرض.. يتناسى هؤلاء أن من يضحي بدمه الآن هو ذات الفلسطيني الذي يتهمونه ويتهمون أجداده ببيع أرض فلسطين، وهو أمر لا يكذبه فقط التاريخ بشواهده، ولكن يكذبه أيضا الواقع بوقائعه التي تؤشر عن حالة مقاومة واسعة وانتفاضات متتابعة تعبر عن عظم هذا الشعب في مقاومته، والذي ينتدب في الحقيقة عن الأمة بأسرها.. لم لا وقد تجدد التدنيس ببلطجة “ترامب” بقراره بنقل سفارة بلده الى القدس باعتبارها عاصمة للكيان الصهيوني؟

وقف شباب غزة على بعد أمتار يرشقون الجنود الإسرائيليين بالحجارة، غير عابئين بأسلحتهم وبكل ترساناتهم لإرعابهم او تخويفهم.. إنها حركة الإرادة التي تتواصل فيها شبكة المقاومة في غزة مع الأقصى.. مع القدس.. مع الخليل، وحتى رام الله، لتعبر بذلك عن معنى المقاومة ورمزية المواجهة لهذا العدو الصهيوني الذي يريد دائما أن يستهدف معنى الإرادة في هذا الشعب. قبل أسابيع استطاع هؤلاء أن ينتصروا على بعض الإجراءات التعسفية، من نصب البوابات الإلكترونية ونصب الكاميرات في المسجد الأقصى على مداخله وعلى عتباته، فهؤلاء رفضوا كل تلك الإجراءات، وأصروا على خلع تلك البوابات ونزع تلك الكاميرات، ونجحوا في مسعاهم ضغطا على الكيان الصهيوني، ليؤكد هذا، المرة تلو المرة، أن إرادة المقدسيين لا يمكن أن تنثني.. ذات الإرادة التي تمثلت في المرابطين تمثلت أيضا في مواجهة وفد بحريني كسر كل القواعد في بجاحة منقطعة النظير؛ ليصل في زيارة للكيان الصهيوني، مدعيا أنه في ذات الوقت سيزور المسجد الأقصى، كما سيزور أهل غزة، ولكن شبكة المقاومة في الأقصى وفي غزة؛ رفضت هؤلاء المطبعين، سواء في دخولهم إلى الأقصى أو في دخولهم إلى أرض غزة، ومنعوهم من أن ينالوا الشرف بأن تطأ أقدام هؤلاء المفرطين والمطبعين حرم الأقصى أو أرض غزة المقاومة.

شبكة المقاومة تنطلق شرارتها في أرض فلسطين، من أقصاها إلى مدنها المقاومة إلى غزة العزة، فتفيض على الأمة إرادة ومقاومة وعزة، فتواجه قرار ترامب الصهيوني والعنصري، واغتصاب الكيان الصهيوني، والتأكيد على أن القدس هي التي تشكل معنى ورمزية المقاومة في هذه الأمة عبر التاريخ وعبر رصيد الكرامة والانتصارات. ومن هنا، فإن أي تفريط في القدس هو أمر غير مقبول، وإن هؤلاء الذين يتحكمون في القدس وليست لهم؛ يهبها ترامب البلطجي العنصري لهم؛ في مسرحية يحاول فيها أن يجتذب التأييد من اللوبي الصهيوني، بعد أن طالته الفضائح السياسية وأحاطت به من كل صوب وحدب. ولذلك، لا تستغرب أن تصل شبكة المقاومة والاحتجاجات إلى أقصى الأرض.. في إندونيسيا وماليزيا، وفي كل دول المسلمين، لتعبر عن احتجاجات واسعة لا يستطيع أحد أن يوقفها أو يطوعها. وفي بلاد العرب سترى العواصم والحواضر العربية تنتفض بشعوبها وبشبابها وطلابها، لتدافع دفاعا رمزيا عن القدس، وتعبر عن احتجاجها، فتشمل شبكة المقاومة شعوب الأرض من أقصاها إلى أقصاها.

بل إن هذه الاحتجاجات قد امتدت إلى كل أنحاء الدنيا، لتعبر قضية القدس عن حالة تشمل كل الإنسانية؛ تستنهض كل الشعوب وتستنفر طاقات الحق والعدل والحرية، وتجعل معنى المقاومة حالة إنسانية لا تعرف الحدود ولا تكترث بالقيود.. لا تقف عند حدود الإيدولوجيات أو حتى الأديان. ومن المهم هنا أن نؤشر إلى طاقة مقاومة حقيقية على أرض فلسطين من مسيحيي هذا البلد الأشم.. فعبّر هؤلاء بكلمات دافقة بالحماسة والمقاومة؛ لتؤكد على عروبة وإسلامية القدس، وتؤكد على فلسطينيتها بما لا يدع مجالا للشك.. يتحدثون بلغة واحدة، هي لغة العزة والمقاومة والمواجهة، ويعبرون في اصطفاف مشهود لمواجهة الكيان الغاصب ومواجهة قرار “ترامب” العنصري، ليؤكدوا أن القدس فارقة جامعة مقاومة.

هذا عن حال الشعوب وغضبتها، واحتجاجات الإنسانية ومقاومتها. فماذا عن مواقف حكام باهتة، وربما متواطئة، يخرج علينا  بها هؤلاء المخذلون؛ في حروب كلامية على وسائل التواصل الاجتماعية.. “حروب الكلمات” على “تويتر” و”فيسبوك”.. يحاولون أن يديروا تلك المعارك ويؤججونها، ضمن حروب كلامية لا يجيدون غيرها.. يتهمون أهل فلسطين ويتهمون الشعوب المقاومة، ويتحدثون عن حقوق إسرائيل؛ لا حقوق أهل فلسطين المغتصبة، ويتحدثون عن أن الكيان الصهيوني، ممثلا في إسرائيل، دولة ذات سيادة؛ وجب علينا الاعتراف بها وإقامة العلاقات معها.. يهرولون إلى العدو بكلامهم، جاعلين من كل ذلك بوابات للتطبيع مع العدو، غير عابئين بالقضية الفلسطينية ولا حصار غزة، ويخرج إعلامهم ليتوج ذلك بحروب ومواقف كلامية لا تزيد الأمر إلا خذلانا وتخاذلا وتخذيلا، ثم تأتي تلك الدولة الصغيرة لترسل في ذلك التوقيت وفدا لزيارة الكيان الصهيوني، ولا بأس ومن باب التبجح أن يزور كذلك المسجد الأقصى وأرض غزة، وكأنهم لم يخونوا القضية؛ متغاضين عن هذا الموقف المتصهين، فيطردهم أهل المقاومة في الأقصى وفي غزة، لعلهم يتدبرون أمرهم ويعرفون مناط خيانتهم وقدر هوانهم.. هوان هؤلاء من هوان حكامهم.. القدس كاشفة، تكشف عن معدن المقاومة والممانعة، كما تكشف عن معاني الخيانة والمهانة والهوان والوهن بين الحكام وسدنتهم وصنائعهم.

بقلم سيف عبدالفتاح

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...