رمضان شهر الوحدة العربية والإسلامية

إن شهر رمضان المبارك له الأثر الحميد، أو ينبغي أن يكون له الأثر الطيب في رياضة الروح، وصفاء النفس، وتهذيب الإنسان، وتمجيد القيم الروحية والمعنوية، وحث المواطنين على الخير والإحسان، وترويضهم على الصبر والاحتمال، والعزوف عن الشهوات والمنكرات، وتعويدهم العطف على الفقير والمحروم.

فهو من هذه الناحية عمل إنساني يحد من كبرياء المرء، ويقلل الفارق بين الطبقات، وأنه لخطوة موفقة نحو الاشتراكية المعتدلة وتطلع إلى المثل العليا في حياة الفرد والجماعة.

فلا غرو أن اقترن رمضان في مختلف العهود بعمل متواصل نحو تحقيق الأهداف الإنسانية الكاملة، وتدعيم للقومية العربية.

ألا نرى أن فتح مكة كان في هذا الشهر المبارك من العام الثامن للهجرة «١ ديسمبر سنة ٦٢٩ ميلادية»، فحررها الرسول عليه الصلاة والسلام من أيدي قريش بعد أن نقضوا العهد والميثاق، ولقد كان لفتح مكة الأثر البالغ في توحيد كلمة العرب في الجزيرة العربية أولاً، ثم فيما جاورها من الأقطار والأمصار، وكان ولا ريب من أولى الدعائم في تكوين الوحدة العربية.

 

وقد تم انضمام مصر إلي هذه الوحدة في رمضان من السنة العشرين للهجرة ٦٤١م، إذ كان فتح الإسكندرية معقل الروم البيزنطيين وآخر حصن لهم في مصر في غرة المحرم من تلك السنة.

ولا يغيبن عنك أن العرب إنما استخلصوا مصر من أيدي الروم، فلقد كانت حينذاك ولاية رومانية يتعاقب عليها الولاة من آل بيزنطة ويضطهدون المصريين ويسومونهم الخسف والنكال، حتى إذا ما جاء الفتح العربي انضم إليه المصريون عن طواعية واختيار، وانتشرت العروبة في وادي النيل، وصارت مصر مع الزمن جزءاً من الوطن العربي، وصار المصريون عرباً أُصلاء.

ولا يخفى أن الدعوة العباسية قد ظهرت في خراسان في رمضان من سنة ١٢٩هـ (٧٤٧م) على يد أبي مسلم الخراساني، وكان من نتائجها ظهور الدولة العباسية التي كان لها فضلها في إقرار الوحدة العربية ورفع شأنها وتوسيع نطاقها.

وإذا كانت دمشق رمز الوحدة العربية في عهد الأمويين، وبغداد رمزاً لهذه الوحدة في عهد العباسيين، فإن القاهرة صارت علماً لها منذ عهد الفاطميين.

وفي رمضان من سنة ٣٦١هـ (٩٧٤م) تم بناء الجامع الأزهر فصار من دعائم الوحدة العربية من الناحية الثقافية الروحية، وظل على توالي القرون مصدراً للإشعاع العلمي والفكري في مصر والشرق العربي، وفيه تخرج علماء العروبة ولغويوها، وأدباؤها وشعراؤها وفقاؤها ومؤرخوها، وعلماؤها الرياضيون، وكانت له عدا ذلك اليد الطولى في حماية المواطنين من مظالم الحكام، فإن علماءه في مختلف العهود كانوا الممثلين للشعب الناطقين بلسانه في الذود عن حقوقه ورفع الحيف عنه، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وكانت لهم مساهمة في الحركات القومية والانتفاضات الشعبية التي قامت ضد مظالم الحكام أو حملات المستعمرين.

 

وفي رمضان سنة ٥٨٤هـ (١١٨٨م) كانت انتصارات صلاح الدين الأيوبي قد دعمت الجبهة العربية التي جمعت ضمن ما جمعت مصر وسورية في وحدة شاملة، ومعلوم أنه في منتصف ذلك الشهر المبارك سار صلاح الدين إلى قلعة «صفد» بفلسطين، فاستخلصها من أيدي أعداء هذه الجبهة حتى سلمت، وجاء هذا النصر تتويجاً للوحدة العربية في القرن السادس للهجرة (الثاني عشر الميلادي).

وقد جاء رمضان سنة ١٣٧٧ والوحدة العربية الحديثة قد جمعت مرة أخرى بين مصر وسورية في دولة واحدة، فلقد أعلنت الجمهورية العربية المتحدة في أول فبراير سنة ١٩٥٨ وتم الاستفتاء عليها في ٢١ منه، أي في شهر شعبان سنة ١٣٧٧، فأجمع المواطنون في كلا الإقليمين على تأليفها وجاءت عنواناً على ما بينهم من الروابط التاريخية التي لا انفصام لها وأن الروابط التي تجمع المواطنين في الجمهورية العربية المتحدة هي نفس الروابط التي جمعت بين سكان القطرين في مختلف العصور،

وهي مظهر للنهضات التي تجلت في الماضي والحاضر، فجاءت الوحدة تتويجاً لهذه النهضات، ولعمري أن الروابط التي تجمع بين القطرين أقوى من كثير من الروابط التي تجمع دولاً وأقطاراً شتى في الكتل السياسية والاقتصادية التي تكونت واستقرت وصار لها الصوت المسموع والأثر الفعال في المحيط الدولي.

فشهر رمضان خليق بأن يوحي إلينا ويغرس في نفوسنا معاني التعاون والوحدة العربية وأطوارها في التاريخ البعيد والمعاصر، ويحفزنا إلى متابعة العمل على تحقيق أهدافها.. وما أهدافها إلا البر والخير والإحسان وإسعاد المواطنين ورفاهيتهم، وتقدمهم ورخائهم، والتعاون على رفعة شأن الوطن العربي ليأخذ مكانه اللائق به في مجموعة الدول المتحضرة.

 

وإذا كان أول ميزة لرمضان أنه الشهر المبارك الذي نزل فيه القرآن «هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان» وكانت هذه الميزة من أسباب اختصاص هذا الشهر بأداء الصوم فيه، تكريماً له وتعظيماً، فأجدر بنا أن نجعله شهراً مباركاً نتعاون فيه علي البر والتقوي ونعمل فيه لخير العروبة والإنسانية والسلام.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...