الطاعة والمشقة

لا شك في أن ديننا الحنيف هو دين اليسر لا العسر ودين السماحة لا الغلو و التشدد , فآيات كتاب الله القرآن وأحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار في دلالتها على هذا المعنى , قال تعالى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا….} البقرة/286 وقال تعالى : { …وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ…..} الحج/78 , وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ ) صحيح البخاري برقم/39

ومع التسليم بأن الله تعالى لم يكلف عباده ما لا يطيقون ولم يأمرهم بما لا يستطيعون ….إلا أن ذلك لا ينفي وجود شيء من المشقة في العبادات والطاعات والتكاليف , إذ لولا ذلك لما سمي التكليف تكليفا , كما أن تضمين التكاليف الشرعية قدرا من المشقة أمر لا بد منه ليميز الله من خلالها الصادقين بمحبته من عباده من الأدعياء والكاذبين , فمن المعلوم أن حقيقة إيمان العبد لا تظهر إلا من خلال شهادته بالحق والتزامه بأوامر الله سبحانه واجتناب نواهية التي لا تخلو من مجاهدة نفسه ومخالفة شهواته وأهوائه .

حول هذه المعاني دار حديث شيق بين بعض الأصدقاء في جلسة من الجلسات التي جمعتهم منذ أيام , فذكر أحدهم أنه قد شرع بصيام الأيام الستة من شوال التي جاء الحث على صيامها بعد رمضان بحديث أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ) صحيح مسلم برقم/2815 ….مشيرا إلى مشقة الصيام مع موجة الحر الشديدة التي طالت معظم بلاد المسلمين هذه الأيام وتزامنت مع شهر شوال الذي يسن فيه صيام الأيام الستة .

ولعل من أهم ما تم تداوله في هذه الجلسة الطيبة التأكيد على أن المشقة ليست مقصودة لذاتها في دين الله الإسلام , وإنما المقصود الالتزام بأمر الله تعالى ونهيه الذي لا يخلو بطبيعة الحال من مشقة وجهد ومخالفة للرغبات والشهوات .

وقد تناول بعض الحاضرين المقولة المشهورة التي يتداولها كثير من الناس : “الأجر على قدر المشقة” بالتدقيق والتمحيص , مشيرا إلى أنها ليست على الإطلاق كما يظن أغلب المسلمين , بل هي محصورة ومقصورة في العمل المشروع الذي يستلزم المشقة والتعب بطبيعته كما هو الحال في صيام الأيام الستة من شوال التي تزامنت مع شدة الحر في هذه الأيام , فالثواب والأجر قد يكون على قدر المشقة والتعب ، لا لكون التعب والمشقة مقصود من العمل…وإنما لكون العمل مستلزم للمشقة والتعب .

واستشهد المتحدث على صحة ما يقول بالكثير من الآيات والأحاديث أهمها حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ ) صحيح البخاري برقم/6704

وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنْ نَذْرِهَا مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ ) سنن الترمذي برقم/3299 وصححه الألباني .

وذكر أيضا – في معرض استدلاله على ما يقول – استقراء العلماء لمصادر الشريعة الإسلامية التي تشير إلى أنها لا تقصد الأمر الشاق ولا ترتب عليه كثرة الأجر بالدرجة الأولى , وأردف ذلك بكلام نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “ومما ينبغي أنْ يعرفَ أنَّ الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثيرٌ من الجُهَّال : أنَّ الأجر على قدر المشقة في كل شيء , لا ، ولكنَّ الأجرَ على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته ، وعلى قدر طاعته أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل؛ فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل” . مجموع الفتاوى 25/281

وبمقولة العزُّ ابن عبد السلام : “قد علمنا من موارد الشرع ومصادره : أنَّ مطلوب الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقة مصلحة، بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيبِ المريضَ باستعمال الدواء المرّ البشع، فإنه ليس غرضه إلا الشفاء”. قواعد الأحكام 1/31

آخر من تكلم في المجلس تناول ما يجول بخاطري وخاطر الكثير من الحاضرين , حيث أكد على أن المشقة التي قد يجدها البعض اليوم في أداء بعض العبادات والطاعات كصيام ست من شوال أو أداء بعض الصلوات في هذا الجو الحار ….هي بإذن الله مأجورة , ولا ينبغي أن تصرف تلك المشقة البعض عن المبادرة على الإقبال عليها بذريعة أن دين الله يسر لا عسر وأن سمة الشريعة الإسلامية السهولة والسماحة لا التضييق والتشديد …..

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...