هكذا ربى رسول الله أمته

“إن شجرة الحضارة البشرية تترنح اليوم كما كانت تترنح وتهتز قبيل مولد الرجل الذى وحد العالم جميعه، فما أشد حاجة البشرية إلى رسالة محمد لتنقذها مرة أخرى”( ) تلك شهادة من رجل نصرانى شديد التعصب لنصرانيته، لكنه لم يجد مهربا أمام ضميره إلا أن ينطق بهذه الحقيقة.
وحتى تدرك عظمة تلك الرسالة التى جاء بها محمد ، سأعرض على القارئ العزيز صورة موجزة لحالة الأرض عند قدوم رسول الله.
جاء محمد وقد انحطت البشرية إلى أدنى دركات الإنحطاط فى عقلها، ودينها، وخلقها، وسلوكها. وغدت أسيرة تصورات جاهلية، وأفكار شيطانية، وانحرافات أخلاقية وسلوكية.
فالفرس مجوس يعبدون النار، وكانت فارس حقلا لوساوس دينية فلسفية متصارعة مختلفة. كان فيها الزرادشتية التى اعتنقها ذوو السلطة الحاجمة، وكان فيها المزدكية التى قامت على فلسفة أخرى هى حل النساء وإباحة الأموال، وجعل الناس شركاء فيها كاشتراكهم فى الماء والكلأ والنار. فما أنتج إباحية وانحلالا وفوضى فى الأنساب والأعراض.
وأما الرومان فقد كانت تسيطر عليهم الروح الاستعمارية، وكانت منهمكة فى خلاف دينى بينها من جهة وبين نصارى الشام من جهة أخرى، وكانت تعتمد على قدرتها العسكرية وطموحها الاستعمارى فى إملاء رغبتها على رجال الدين النصارى الذين استجابوا لدعوة “بولس” الذى انحط بالروم إلى الوثنية التى ولد فيها وعاش عليها، ثم جاء قسطنطين فقضى على البقية الباقية من الدين المسيحى حتى أصبحت النصرانية مزيجا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية، والأفلاطونية المصرية، والرهبانية”( ).
وفى اليونان عبد الناس آلهة متعددة حسب ماأملاه عليهم فلاسفتهم، فهناك إله للخير، وإله للشر، وإله للخصب، وإله للشعر، وإله للجمال.
أا أمة الهند فقد اتفقت كلمة المؤلفين فى تاريخها على أن أحط أدوارها ديانة وخلقا واجتماعا هو ذلك العهد الذى يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادى، وقد حدد العلاقة أبو الحسن الندوى مظاهر هذا الفساد فى أمور ثلاثة هى:
– كثرة المعبودات والآلهة كثرة فاحشة.
– الشهوة الجنسية الجامحة.
– التفاوت الطبقى المجحف والامتياز الاجتماعى المهين.
أما اليهود فقد أورثهم تاريخهم الخاص وماتفردوا به بين أمم الأرض من العبودية الطويلة والاضطهاد الفظيع والكبرياء الأجوف، والاعتزاز بالقومية، والجشع والشهوة العارمة إلى المال، وتعاطى الربا، كل ذلك أورثهم نفسية غريبة لم توجد فى أمة من الأمم.
وقد وصفهم القرآن الكريم أدق وصف وأعمقه، بقوله تعالى:  فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً …. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً.( )
وأما العرب، فقد امتازوا بين أمم العالم وشعوبه فى العصر الجاهلى بأخلاق ومواهب تفردوا بها، كالفصاحة وقوة البيان وحب الحرية، والأنفة والفروسية والشجاعة والحماسة فى سبيل مايعتقدون، والصراحة فى القول، وجودة الحفظ، وقوة الذاكرة، وحب المساواة، وقوة الإرادة، والوفاء والأمانة.
لكنهم ابتلوا فى عصرهم الأخير قبل البعثة بانحطاط دينى شديد، لكنهم كانوا على قلتهم أعزة، وعلى فاقتهم أعفة، وعلى جهالتهم أعلم بالخير”.
وهكذا غدت الأرض كلها مسرحا للشيطان بين وثنية فارسية تعبد النار، ووثنية هندية تعبد البقر، ووثنية رومانية صارعت النصرانية حتى قهرتها وأخضعتها لتصوراتها الوثنية.
فى هذا الجو الخالق القاتل، وبعد أن استيأس الناس من أمل ينقذهم، أو دين يعصمهم، أو منهج يجمعهم، أو وحى يرشدهم سواء السبيل، شاء الله للأرض أن تسعد بعد شقائها، وأن تهتدى إليه بعد ضلالها، وأن تشهد أعظم رسالة منذ أوجدها الله وفطرها؛ فأرسل نبيه محمد.
ولد رسول الله لتتحقق بمولده دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام:  رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (البقرة: 129)، وبشارة عيسى ابن مريم:  وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ … (الصف:6)، ورؤيا أمه آمنة التى رأت قبل مولده أنه خرج من بطنها نور أضاء مابين السماء والأرض”. وهذا مصداق حديث : “أنا دعوة أبى إبراهيم وبشارة أخى عيسى، ورؤيا أمى آمنة“.
ومنذ اللحظة الأولى لنزول الوحى على حبيب الله محمد قام ليؤدى رسالته، وليبلغ دعوته، مستجيبا لنداء ربه:  يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ  (المدثر:1-7)
وبتوجيه الله سبحانه وتعالى ووحيه علم رسول الله أن الأمة بحاجة إلى أن تتعلم وتفقه حقيقة وجودها. وأن تعرف علاقتها بربها، وتدرك الرسالة التى خلقت لها، ومكانتها بين أمم الأرض من حولها.
فبدأ صلوات الله وسلامه عليه بتربية الأمة تربية عميقة دقيقة هادئة، فأتى البيت من بابه، وأدار فى قفل الطبيعة البشرية مفتاحه، عندما نادى فى قومه: “ياأيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا“.
ولما كان مفتاح كل أمر من أمور الإصلاح لابد أن يبدأ من قناعة النفس بضرورته فقد بدأ بنفوس أصحابه يطهرها ويزكيها، ويهذبها وينقيها؛ عاملا بقول ربه سبحانه:  هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (الجمعة:2).
ولقد بدأ صلوات الله وسلامه عليه بأهل بيته، ثم ثنى بعشيرته الأقربين، ثم قام لينذر أهل مكة وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وكأنه يعلمنا كيف نبدأ عملية بعث الأمة وردها إلى ربها، عندما يقول مبينا طريقه ورسالته: “إنما بعثت معلما”. ثم يعلمنا أن مهمة إحياء الأمة مهمة شاقة، وأن من ينتدب نفسه لدعوة الله سبحانه ينبغى أن يتحلى بالصبر الذى تحلى به رسول الله مستجيبا لأمر ربه له: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (الكهف:28) ويعلمه سبحانه وتعالى أن دوره مع الناس هو تبليغهم دعوة ربهم فى نوع من اللين معهم والرفق بهم وخفض الجناح لهم. والإشفاق الشديد عليهم فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ (آل عمران:159).
عُلِّم صلوات الله وسلامه عليه ذلك من ربه، فربى أرواحهم بقيام الليل، وقراءة القرآن، وعمق التدبر فى آياته. وأوقفهم على مشاهد القيامة وأشعرهم رهبة العرض على الله والوقوف بين يديه، فلما لانت قلوبهم، ورقت نفوسهم، وتطهرت مشاعرهم، وعمر وجدانهم؛ استجابوا لخالقهم؛ وخشعوا لربهم.
ومن هنا يتعلم الدعاة إلى الله أن بداية العمل مع من يدعونه لابد أن تبدأ بتهيئة القلب وتليينه وإعداده ليتلقى عن الله. أما المحاورات العقلية والمجادلات النظرية، والمقدمات الفلسفية؛ فهذه كلها ليست من سبيل رسول الله فى شئ. فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِ العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (الروم:52-53).
وبعد أن بدأ رأرواحهم فزكاها، وبمشاعرهم فظهرها، وبوجدانهم فهزه بمشاهد الآخرة فى آيات القرآن المكى. ربى عقولهم بالنظر فى الكون، والتأمل فى أحوال السابقين، آخذا من كل موقف حكمته ودلالته. ضاربا لهم الأمثال، عارضا عليهم نماذج من أفعال السابقين، مستمعا إلى أقوالهم، ناظرا فى أفعالهم مثنيا على الصالح منها، معدلا مايحتاج إلى تعديل، ومبعدا مايحتاج إلى التغيير والتبديل، مستعينا فى ذلك كله بكتاب الله يطهر به نفوسهم، ويزكى جمرة قلوبهم.
ولم تزل مجالس الرسول تزيدهم رسوخا فى الدين وعزوفا عن الشهوات، وتفانيا فى سبيل المرضاة، وحنينا إلى الجنة، وحرصا على العلم، وفقها فى الدين، ومحاسبة للنفس، يطيعون الرسول فى المنشط والمكره، وينفرون فى سبيل الله خفافا وثقالا، قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعة وعشرين مرة فى عشر سنين، وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة؛ فهان عليهم التخلى عن الدنيا، وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم فى نفوسهم، ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه، ولم يتعودوه، وبكل مايشق على النفس إتيانه، فى المال والنفس والولد والعشيرة. فنشطوا وخفوا لامتثال أمرها وانحلت العقدة الكبرى –عقدة الشرك والكفر- فانحلت العقد كلها. وجاهدهم الرسول جهاده الأول، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهى، وانتصر الإسلام على الجاهلية فى المعركة الأولى (معركة العقيدة) فكان النصر حليف فى كل معركة، ودخل الناس فى السلم كافة بقلوبهم، وجوارحهم وأرواحهم، لايشاقون الرسول من بعد ماتبين لهم الهدى، ولايجدون فى أنفسهم حرجا مما قضى، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ماأمر أو نهى. حدثوا الرسول عما اختانوا به أنفسهم، وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد. نزل تحريم الخمر والكئوس المتدفقة على راحاتهم؛ فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة، والأكباد المتقدة، وكسرت دنان الخمر فسالت فى سكك المدينة؛ حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم، وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم، وأصبحوا فى الدنيا رجال الآخرة. وفى اليوم رجال الغد، لاتجزعهم مصيبة، ولا تبطرهم نعمة، ولا يقعدهم فقر، ولا يطغيهم غنى، ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ولا تستخفهم قوة، ولا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم، قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، وطأ لهم أكناف الأرض، وأصبحوا عصمة للبشرية، ووقاية للعالم، ودعاة إلى دين الله، واستخلفهم الرسول على دعوته، ولحق بالرفيق الأعلى، قرير العين من أمته ورسالته”( )

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...