الندم .. يوم لا ينفع الندم

قال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا) [الفرقان:27-29].

ليس شيئاً أقصى على النفس من الندم، خاصة إذا كان هذا الفعل لم يترتب عليه ترك متاع زائل، أو تفويت فرصة كانت أمامه، بل هنا نجد الندم علي ترك السلامة والفوز إلي ضلالة الطريق وإلي الهلاك.

والآية في ذاتها تحكي قصة وحال هذا الذي ندم يوم لا ينفع الندم وجاء التعبير القرآني بأكثر من صورة ندم في هذا المقام..

صور الندم في الآية الكريمة:

1- العض على اليدين:

مما جرت عليه عادة الناس أنه إذا أهمهم أمر صاحبه ندم؛ أن يعضوا على أنامل أصابعهم من أطرافها أو من جانب من جوانب أحد الأصابع، وقد يستخدم تعبير بأنه عض على إصبعه لبيان المبالغة في الندم على ما وقع منه، ولكن ماذا إذا اشتمل العض على أصابع يد أو الأصابع مع الكف، فكيف إذا كان ذلك العض شاملا اليدين، فهو يعض على أجزاء اليدين كلها من الأنامل والأصابع وغيرها، حتى أنه من شدة ما هو فيه من ندم لم يترك جزءاً منها يمكن عضه إلا فعل ذلك ندماً وحسرة على ترك الخير الذي شاهده وعاينه واقترب منه إلى شر ذهب به إلى سوء السبيل، وقد ورد نفس التعبير عنهم في الدنيا قال تعالى: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران:119].

فهذا الكافر «لا تكفيه يد واحة يعض عليها، إنما هو يداول بين هذه وتلك ويجمع بينهما لشدة ما يعانيه من الندم اللاذع المتمثل في عضه على اليدين».

2- يا لَيْتَنِي:

وهي كلمة تدل على تمني ما فات مثل قوله تعالى: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله) [الزمر:56]، والنداء في يا، يدل على استبعاد حصول ما يتمناه لفوات الأوان أو غير ذلك، وهذا يؤدي إلى مزيد الحسرة لأنه كاشف عن أنه في وقت ما أدرك هذا الخير وتعرف عليه ثم تركه وأعرض عنه ومعنى ذلك أيضا قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [يونس:54]. وقوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [سبأ:33]. وقوله تعالى (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:167]، والحسرة أشد من الندم.

3- يَا وَيْلَتَى:

الويل سوء الحال، فهو كمن ينادي على سوء الحال الذي صار إليه، فهو يقول يا هلاكي هذا أوانك.

الظَّالِمُ:

هذه أحوال كل ظالم يوم القيامة، وليس له إلا الندم والحسرة، وحديث القرآن الكريم عن الظالمين كثير، وبيانه لندمهم وتمنيهم الفداء كثير أيضا، نشير إلى بعض ما ورد فيه مثل قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [يونس:54].

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [الروم:57].

والمقصود بالظلم في آية سورة الفرقان الكفر وذلك بين من سياق الآيات، وإن كان كل ظالم حتى فيما دون الكفر، يخشى عليه والدليل على ذلك حديث المفلس وهو حديث مشهور.

يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا:

هذا المعنى تكرر في القرآن العظيم في قوله تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب:66]، وقوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر:2]، وقوله تعالى: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:24].

(مَعَ الرَّسُولِ) أي متابعا له، كما يسير الإنسان مع الدليل ليسلك به أمن الطرق، «وهذه المعية حقيقة مقررة حتى لدى الكفار لكثرة ما دعاهم الرسل إليها، ولأنهم رأوها تطبيقا واقعا في جماعة المؤمنين الذين عاصروهم، وشهدوا أحوالهم مع الرسول في زمانهم».

لقد ضلت بالظالمين السبل فقالوا عن الرسول الكريم إنه ساحر وشاعر وكاهن وكاذب ومجنون، وضل عنهم أقوم سبيل دعاهم إليه الرسول الكريم وقدم لهم كل الإثباتات على صحة دعوته، وأهمها القرآن العظيم، ويتأكد هذا المعنى بعد ذلك في قوله تعالى: (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي).

يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلا:

وكلمة (فلان) تعني كل من لم يرد ذكر اسمه، وعدم الذكر لعدم الفائدة، «وفيه إيماء إلى أن من شأن (الخلة) الثقة بالخليل، وحمل مشورته على النصح فلا ينبغي أن يضع المرء خلته إلا حيث يوقن بالسلامة من إشارات السوء».

ومن هنا كانت عناية الإسلام باختيار الخليل أو الصاحب، ومما يؤسف له أن الكثير يغفلون عن ذلك، ويسيرون مع أصحابهم دون اختيار أو تدقيق ودون معرفة بآثار هذا الأمر الخطير؛ لذا يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ». وفي هذا أيضا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِناً وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِىٌّ»، ويقول علماء الاجتماع: الطباع يسرق بعضها من بعض، ولذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «ما من شيء أدل على شيء ولا الدخان على النار من الصاحب على الصاحب»، ولأهمية الصحبة أرشدتنا الآيات القرآنية إلي أهل الخير نصاحبهم وحذرتنا من أهل الباطل في آيات كثيرة، منها:

قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف: 28].

وقوله سبحانه: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) [هود: 113]، وقوله جل وعلا: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا) [النجم: 29]، ولذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو من هو، في مقام النبوة يختار ويقول، لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا.

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي:

وهذه معركة مستمرة، وندم مستمر، وحسرة مستمرة بين هؤلاء وأولئك، ويعبر القرآن في كثير من آياته عن هذا المعنى ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ:31]، (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف:38]، (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) [الأعراف:202].

وقول هذا الظالم (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي) تعليل يقدمه هذا الظالم لتمنيه أن لا يكون اتخذ فلان هذا خليلاً، وهذا ما يتمناه أمثاله يوم القيامة، لعظيم الخسارة التي ترتبت على صحبته إذ أضله عن الحق. والذكر وهو القرآن الكريم وكل ما يذكر بالله ويذكر بالحق، ومجيء الذكر إعلانه وبيانه، وهذا واجب كل داع إلى الله.

وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا:

وقد ورد هذا المعني تفصيلا في قوله: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم:22].

لولا نعمة الله:

ونجد في سورة الصافات قصة رجل كاد خليله وقرينه أن يهلكه لولا نعمة الله وفضل الله: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ* يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ* أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ* قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ* فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ* قَالَ تَالله إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ* وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات:51-57].

ما فائدة الندم يومئذ:

ولكن ما قيمة الندم والأسى والاعتراف بالخطأ؟ لا قيمة لشيء من هذا بعد فوات الأوان. وأين الأخلاء الذين أظهروا في الدنيا المودة للظالم نفسه؟ أين إبليس ذو الوعود المعسولة المكذوبة. الكل يتخلى ويخذل ولا ينفع الإنسان إلا عمله الصالح الذي امتن الله تعالى عليه بقبوله. ولا يشفع إلا لمن أذن الله تعالى له ورضي عنه.

أما الأخلاء فقد ورد عنهم (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].

ما سبق وما لحق هذه الآيات:

وإذا تدبرنا ما سبق هذه الآيات نجد أنه بعد الحديث عن الذات العلية وقضية التوحيد سجلت السورة اعتراضات الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي:

* أكل الطعام والمشي في الأسواق.

* طلب نزول الملك شريكا أو شاهداً.

* طلب أن يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها.

* اتهامه بالسحر وما إلى ذلك.

وقد ردت الآيات على هذه الافتراءات ووضح ضلال هذه الشبهات.

لكن بعد الآيات التي نحن بخصوصها قال تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُوراً) [الفرقان:30]. وفي هذا تحذير لكل هاجر للقرآن تلاوة أو اتباعا أو عملا.. نسأل الله أن يحفظنا من ذلك.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...