تونس ترد على جنرال البطاطس

خمسة آلاف شاب من 160 دولة من كل قارات العالم دعاهم عبد الفتاح السيسي على نفقة دولة “فقيرة أوي”، واستضافهم أسبوعا كاملا في شرم الشيخ، لكي يستعرض أمامهم قدراته الفكاهية، ثم يطلب من شعبه ربط الأحزمة على البطون، والاستغناء عن تناول البطاطس والتنازل عن العلاوة السنوية، كي لا تضيع الدولة.

خمسة آلاف شاب، أي خمسة آلاف تذكرة طيران، ذهابًا وعودة، وغرفة فندقية (Full board ) وتنقلات داخلية على مدار أسبوع. وبحسبة بسيطة للغاية، لو قدرنا التكلفة بالنسبة للشاب الواحد بنحو ألف دولار، بالحد الأدنى، تكون الفاتورة خمسة ملايين دولار .

ما يقرب من مائة مليون جنيه مصري فاتورة نكتة سمجة أطلقها عبد الفتاح السيسي عما أسماها “فاتورة الربيع العربي”، ليخلص إلى أن ثورات الشعوب الساعية إلى التغيير لا تعني إلا الخراب ومعسكرات اللجوء وانهيار الدول، مستدعيًا النموذج السوري، وكذلك اليمني، والعراقي أيضًا.

يقول السيسي، بوضوح، إنه يحارب الربيع العربي، ويناصب الثورة المصرية العداء، ويكره أحلام الشعوب في التغيير، لأنه يريد الحفاظ على الدولة، وحماية حدودها، والدفاع عن ترابها الوطني المقدس.

وإذا أخرجنا العراق من هذه المعادلة السيسية البائسة، باعتبار أن العراق لم يشهد ثورة شعبية، فإن تشخيصه للحالتين، السورية واليمنية، هو منتهى التدليس السياسي، فالحقيقة التي يجسّدها الواقع تقول إن الذي ألقى بسورية واليمن إلى فوهة الجحيم ليس حضور الربيع العربي، وإنما هو التغييب القسري والقتل الهمجي لهذا الربيع، من خلال حربٍ مجنونةٍ تكالب فيها الأوغاد على إجهاض الربيع، ووأد ثورات التغيير.

وهنا تقدم الحالة التونسية الدليل والمثل، وتفضح ادعاءات الجنرال المكلف بالحرب على التغيير ومزاعمه، إذ لم تشهد الدولة التونسية انهيارًا، ولم يصبح منتهى حلم المواطن التونسي قارب هجرة يحمله إلى مرافئ اللجوء، ولم يعرف حاكمًا يُساومه على آدميته وحريته، والسبب أن ثورة تونس شقّت طريقها، واقتربت من تحقيق ما حلم به الشعب حين ثار: خبز وحرية وكرامة إنسانية.

في المقابل، بقيت الدول التي قرّرت قتل أحلام التغيير تغوص في المأساة الوجودية الشاملة، من قتلٍ منهجي للوطن وللمواطن، كي يحيا الحاكم الطاغية، في حماية كل الذين يخشون بلوغ الشعوب العربية حلم التغيير والديمقراطية، والعيش وفق منظومة القيم ذاتها التي صنعت التطور والتقدم والحداثة.

يعاير السيسي المصريين بأنهم يعيشون في خرابةٍ من صنعه، معتبرًا أن منتهى النجاح هو الاحتفاظ بالخراب قائمًا، محذّرًا من التفكير في التغيير، لأن التغيير يهدم الدول، والدول التي تهدم لا تقوم لها قائمة، ولا تعود ضاربًا المثل بالعراق، بمنتهى البلادة، بالنظر إلى أن لدى العراق الحالي مثلا 60 مليار دولار احتياطيًا نقديًا، ولا يمد يده تسوّلًا للمنح والمساعدات، ثم يهين الأمة العراقية أكثر حين يقرّر من عندياته أن الدولة العراقية تهدّمت ولن تعود، في إساءةٍ بالغة للشعب العراقي، بإصدار حكمٍ عليه بأنه غير جدير باستعادة دولته كما كانت.

ينبئنا التاريخ بأن دولًا كثيرة قامت من تحت الردم، لتقدم للعالم درسًا في بناء الدولة العصرية الحديثة، وأمامك اليابان التي نهضت بعد دمار الحرب العالمية الثانية، وهناك تركيا التي قفزت من ركام الاستبداد وطغيان الحكم العسكري، ووصلت إلى أن تكون قوة حضارية مذهلة، من حيث التطور السياسي والنمو الاقتصادي، حين عرفت طريق التغيير الديمقراطي.

أمامك أيضًا إندونيسيا التي صنعت أسطورة تفوق اقتصادي ونهوض سياسي، حين سلكت طريق التغيير الديمقراطي، والتخلص من عسكرة السياسة والاقتصاد، حتى وصلت إلى مرحلة التشريع بمحاكمة العسكريين أمام القضاء، تحقيقًا للمساواة الشاملة على أساس المواطنة، بينما في الدول المحكومة بالطغيان البليد، كما في مصر السيسية، لا يزال منتهى الأحلام هو وقف محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري.

يزعم السيسي أنه يحارب التغيير الديمقراطي كي يحمي جغرافيا الوطن، بينما يصرخ الواقع بأن الجغرافيا المصرية لم تمتد لها يد العبث إلا معه، ومأساة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لا تزال حاضرة في الأذهان، ناهيك عن أنه نجح في تدمير الحدود وإحراق الخرائط الإنسانية والمجتمعية، حتى صارت مصر مصريْن، واحدة غريبة وزائفة في شرم الشيخ، والأخرى منهوبة ومقموعة ومطحونة، ومهانة، تبحث عن حبة بطاطس، أو رشفة حرية، أو كسرة كرامة إنسانية.

وتبقى تجارب التاريخ ودروسه تعلمنا أنه سيأتي يومٌ وتزيل فيه مصر هذه البقعة المتسخة من ثوبها.. وتسترد إنسانيتها وكرامتها وجدارتها بالنهوض.

—–
نقلا عن العربي الجديد

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...