استعينو بالله واصبروا

الإخوة والأخوات ، ما دعا أحد بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا سار على طريقه إلا عُودى وأوذى، وهذا ما قرره ورقة بن نوفل فى أول الرسالة ثم أكدته نصوص الكتاب والسنة ، فمن ابتلى بشيء من هذا فليحمد الله على صحة الطريق, وعلى حب الله “إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم”(الترمذى وحسّنه) وللمحن والابتلاءات أسباب وحِكم جليلة منها : تمحيص الإيمان وتمييز الصادق من الكاذب وتنقية الصف,وتكفير السيئات ورفع الدرجات ،واستخراج العبودية من أولياء الله وأحبابه(فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) وفى الحديث” إذا أحب الله أحدا ابتلاه ليسمع تضرعه” (رواه أحمد والديلمى)

وفى عجالة سريعة ندعو أنفسنا وحضراتكم للاعتصام بالله واللجوء إلى حصنه والاعتماد على فضله ولبس دروع الإيمان به والاعتصام بحبله والاعتماد على فضله ،ولا حول ولا قوة إلا به

1-    دروس من سورة القصص : فى القرآن الكريم سور كثيرة فيها قصص أكثر من سورة (القصص) فلماذا اختصت هذه السورة بهذا الاسم؟ والجواب والله تعالى أعلم- أنها عرضت قصتين لأخطر طغيانين: طغيان الحكم والسلطان (فرعون) وطغيان المال والعلم المادى المجرد( قارون) وهما أخطر ما تتعرض له الأمة – خصوصا إذا اجتمعا – وهما طغيانان يقومان على العلو والفساد والله لا يحبهما ولا يجعل لأصحابهما حظا فى الأخرة (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً فى الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) فضلا عن عاجل العقوبة فى الدنيا (فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم), (فخسفنا به وبداره الأرض )

  • النهاية قبل البداية :ومن عجائب سورة القصص- ولا عجب من أمر الله- أنها ذكرت نهاية قصة موسى وفرعون قبل بدايتها فقال تعالى(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم فى الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)ثم ذكرت البداية (وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه(…..وهى إشارة ربانية لطيفة إلى أن(النهايات) محسوسة عند الله ومسجلة فى قدره سبحانه لصالح المؤمنين ولكن الأمور تجرى بمقادير وأسباب وحكم لايمكن أن تُعطل, يستوعب ذلك المؤمنون الواثقون ولا يستوعبه القاصرون والمستعجلون… وقد عبر عن مثل هذه الحقيقة الصديق أبو بكر فى أيام صلح الحديبية التى كانت شديدة قاسية على المؤمنين ، وسماه الله فتحا مبينا فقال أبو بكر(ما كان فتح فى الإسلام أعظم من فتح الحديبية ولكن الناس قصُر رأيهم عما كان بين محمد وربه والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد)

ويحذر ابن القيم من ظن السوء بالله فيقول(فمن ظن أنه لا ينصر رسوله ولا يُتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ويظهرهم عليهم أو أنه لا يقدر على ذلك أو أنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يُديل(أى ينصر ويمكن)الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة( أى دائمة ) يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا ، فقد ظن بالله ظن السوء(زاد المعاد 2/ 117 )

  • (فألقيه فى اليم) من الدروس المهمة فى سورة القصص لكل أزمة ومحنة : درس الثقة بالله ، ومن أراد أن يعرف حقيقتها كما قال بعض العلماء فلينظر إلى حال أم موسى حيث قال لها الله (فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى)… ( فهو فى رعاية اليد التى لا أمن إلا فى جوارها, اليد التى لاخوف معها, اليد التى لاتقرب المخاوف من حِماها ,اليد التى تجعل النار بردا وسلاما, وتجعل البحر ملجأ ومناما (الظلال). وموسى الذى اُلبس درع الثقة صغيراً ، لبسه كبيرا عندما أدركه فرعون وجنوده وقال له بنو إسرائيل بمنطق العقل والظاهر(إنا لمدركون) فقال موسى(كلا إن معى ربى سيهدين) وُروى أنه لما وصل عند الشاطئ قال مناجياً ربه (يامن كان قبل كل شيء ويامن هو كائن بعد كل شيء ويا مُكوّن كل شيء اجعل لنا مما نحن فيه فرجا ومخرجا) فجاءه الفرج والمخرج (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق)

وتحصن نبينا صلى الله عليه وسلم بهذه الثقة فى مواطن كثيرة منها يوم الهجرة(لا تحزن إن الله معنا ) وعندما نتحدث عن الثقة فإننا نذكر بمفهومها الشامل: الثقة بالله ونصره وتأييده والنبى صلى الله عليه وسلم وصدقه وإمامته ،وبالمنهج وصلاحيته ومزيته ، والإخاء وحقوقه وقدسيته والجزاء وجلاله وجزالته ، وبالقيادة وكفاءتها ، وبأنفسكم فأنتم الجماعة التى وقع عليها القدر لإنقاذ أمتكم وأوطانكم وردّ الناس إلى رب العالمين.

  • كم ذبح فرعون فى طلب موسى من ولد ولسان القدر يقول له: لا نربّيه إلا فى حجرك

أخذ فرعون كل حذره واحتياطاته لتأمين نفسه وقمع المؤمنين حتى بثّ القابلات (جمع قابلة وهي المرأة التي تولد النساء) يتعرفن على موعد ولادة كل امرأه من بنى إسرائيل, ومع ذلك تستخف به القدرة الإلهية وتلقى بالطفل الرضيع أمامه مجرداً من كل حول أو حيله بل تقتحم على الطاغية قصره وحصونه وتستخدمه فى إرضاع موسى ورعايته ( ليكون لهم عدوا وحزنا(

( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون)

  • وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين: فإذا ملأت سورة القصص وغيرها قلوبنا ثقة ويقينا فلا يفوت القرآن أبدا أن يذكرنا بالعمل الذى يحقق الأمل ، وقديما قال سلفنا الصالح:(إذا بُذل المجهود حصل الموعود) والمبشرات القرآنية والنبوية لم تكن أبدا مخدّراً للصالحين من قبلنايتواكلون عليها بل كانت دافعاً وحافزاًعلى الدعوة والحركة والعمل والجهاد وشعلة ضوء فى نهاية الطريق الذى لابد أن يُقطع وفق السنن الإلهية

وفى نهاية سورة القصص تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى بلده(لرادُّك إلى معاد)ولكنها أرشدت إلى فعل الحسنات وترك السيئات وعد م موالاة الكافرين ، كما أرشدت إلى الثبات على الحق والاستمرار على الدعوة إلى الله ، ومن العجب أن كثيراً من الآيات التى أمرت بالدعوة خُتمت بالتحذير من الشرك والمشركين ، وفى هذا إشارة إلى أن التقصير فى الدعوة والعمل لدين الله يعتبر تمكينا للشرك والباطل من حيث لا ندرى ولا يجوز لأحد أن يتعلل بوجود عقبات أو معوقات, لأنه لا يوجد حائل أو مانع يحول بينه وبين أهله وجيرانه وزملائه (ومن يتق الله يجعل له مخرجا )

2-    حسن الصلة بالله: ومن الدروع المهمة لصد كل بغى أو ظلم : تحسين صلتنا بالله سبحانه بأداء الفرائض على وجهها والإكثار من النوافل والصيام والقيام والتلاوة والذكر…..إلخ

فإذا صدقنا فى ذلك ، كنا أهلا لرحمة الله ودفاعه (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) وفى قراءة (يَدْفع)وقال العلماء: ودفاع الله ودَفعه يكون على قدر إيمانهم وكماله, كما قالوا فى قوله تعالى (أليس الله بكاف عبده) :على قدر العبودية تكون الكفاية, وفى الحديث القدسى “من عادى لى ولياً فقد آذنتُه بالحرب….”(رواه البخارى) وفى آخره ذكر آثار هذه العبودية من التوفيق والتأييد والهداية والحماية والإعانة وإجابة الدعاء ، وفى الحديث القدسى الآخر ” وعزتى ما من عبد يعتصم بى دون خلقى أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات والأرض بمن فيهن إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا”(رواه ابن عساكر والديلمى)وحديثا حذر الإخوان الإمام البنا من الملك وأنه يستعدى علينا الإنجليز فقال كلمته المشهورة (سنستعدى عليهم سهام القدر ودعاء السحر وكل أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه)..

3-    الدعاء : فبه يرفع الله البلاء ويرد كيد الظالمين في نحورهم ، بل به غيّر الله وجه الأرض كله (أنى مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا….)

وفى أيام محنة حادثة الإفك أتى السيدةَ عائشة فى منامها آتٍ فقال لها يا أم المؤمنين قولى: (يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغُمم ويا كاشف الظُلم ويا أعدل من حكم وياحسيب من َظلم ويا ولى من ُظلم ويا أول بلا بداية ويا آخر بلا نهاية ، يامن له اسم بلا كُنية اجعل لى من همى فرجا ومخرجا)… فاستيقظت رضى الله عنها منشرحة الصدر وقالت هذه الكلمات فجاءتها البشرى لتوّها ، فأكثروا من الدعاء وخصوصا من أوقات الإجابة

4-    الإيمان بالقدر : اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وليكن شعارك (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)فلا داعى للخوف ولا القلق ، وقديما خوفوا سيدنا علياً من محاولات لقتله فقال :

من أى يومىّ من الموت أفرّ   يوم لا يُقدر أو يوم قُدر

يوم لا ُيقدَر لا أرهبه        ومن المقدور لا ينجو الحَذِر

5-    الوعى وتوعية الآخرين : فالربانية ليست صياما وقياما ودعاء فقط ولكنها كما ورد فى تفسير القرطبى وغيره ( الربانى هو الذى يجمع إلى العلم بالدين البصر بالسياسة )

ونبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا على درجة عالية من الوعى بالسياسة والأحداث الجارية من حولهم فى العالم كله ، ولا يقتصر دورك على الوعى فقط بل لابد من توعية الأخرين بما يدور وبما يُدبّر من خطوات وإجراءات تكرس للاستبداد والاستغلال والظلم وإقصاء الدين والمتدينين وطمس هوية الأمة والتفريط فى ثرواتها وثوابتها….إلخ

ولا تيأس من النتائج فعليك الأذان وعلى الله البلاغ ومازالت عناصرة السلامة موجودة فى الناس ولكن أنت الذى يزيح الغبار عنها .،

نسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...