وإنك لعلى خلق عظيم

الحمد لله رب العالمين … وصلاة وسلاماً علي أشرف المرسلين وقائد الغر المحجلين ،صاحب الشفاعة العظمي يوم الدين ……

وبعد … أيها القارئ الكريم …

روى الطبراني عن عبد الله بن سلام بسند رجاله ثقات أن زيد بن سعنه -وهو الحبر الكبير من أحبار يهود – قال : ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا إثنتين الأولى : يسبق حلمه جهله ، والثانية : لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، يقول زيد بن سعنه : فخرج رسول الله يوماً من الحجرات مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإذ برجل من الأعراب يقبل على النبي صلي الله عليه وسلم ويقول يا رسول الله إن قومي في قرية بني فلان قد دخلوا الإسلام ولكنهم دخلوا في الإسلام طمعاً ، فلقد أخبرتهم أنهم إن دخلوا في الإسلام أتاهم رزقهم رغداً وقد نزلت بهم اليوم شدة وقحط فأخشى أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا في الإسلام طمعاً فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت يا رسول الله ، فالتفت الحبيب المصطفى صاحب الخلق إلى على بن أبى طالب رضي الله عنه وسأله (( هل عندنا شيءٌ من المال ؟)) . فقال علي بن أبي طالب : لا والله يا رسول الله لقد نفذ المال كله . يقول زيد بن سعنه : فدنوت من محمد  وقلت له : يا محمد هل تبيعُني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجلٍ معلوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((نعم أبيعك تمراً معلوماً إلى أجلٍ معلوم لكن لا تسمى حائط بني فلان)) فوافقت على ذلك ، وأعطيت النبي ثمانين مثقالا من الذهب ، يقول زيد بن سعنه : فأخذها النبي كلها وأعطاها لهذا الأعرابي وقال (( اذهب إلى قومك فأغثهم بهذا المال )) فانطلق الأعرابي بالمال كله ، ولم يمض غير قليل من الوقت، ورسول الله صلي الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه رضي الله عنهم بعد أن صلى جنازة على صاحب له وأتى إلى جدار ليجلس إليه في ظله فاقترب منه زيد بن سعنه ونظر إلى النبي بوجه غليظ وأخذ بقميص النبي صلي الله عليه وسلم وردائه وهز الحبر اليهودي رسول الله  صلي الله عليه وسلم هزاً عنيفاً وهو يقول له : أَدِّ ما عليك من حق ومن دَيْنٍ يا محمد ! ، فو الله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا مُطلاً في أداء الحقوق وسداد الديون. فالتف إليه عمر بن الخطاب وعينه تدور وقال له : يا عدو الله أتقول لرسول الله صلي الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل برسول الله صلي الله عليه وسلم ما أرى ؟!! والذي نفسي بيده لولا أني أخشى فوته وغضبه لضربت رأسك بسيفي هذا . يقول زيد بن سعنه : وأنا أنظر إلى النبي صلي الله عليه وسلم وإذا بالنبي ينظر إلىَّ في سكون وهدوء ، ثم التفت المصطفى إلى عمر بن الخطاب وقال له : (( يا عمر لقد كنت أنا وهو في حاجة إلى غير ذلك ، يا عمر لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بحسن الأداء وأن تأمره بحسن الطلب ….)) فبهت الحبر أمام هذه الأخلاق السامية ، وأمام هذه الروح العالية من الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي صلي الله عليه وسلم . أتدرون ماذا قال الحبيب صاحب الأخلاق العظيمة ؟ التفت الحبيب إلى عمر رضي الله عنه وقال : (( يا عمر خذه وأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمرٍ جزاء ما روعته !! )) يقول زيد بن سعنه : فأخذني عمر بن الخطاب وأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر . فقلت له : ما هذه الزيادة يا عمر ؟! فقال : أمرني رسول الله صلي الله عليه وسلم أن أزيدكها جزاء ما روعتك !! فالتفت الحبر اليهودي إلى عمر وقال : ألا تعرفني ؟ قال : لا ، قال : أنا زيد بن سعنه . قال عمر : حبر اليهود ؟! قال : نعم . فالتفت إليه عمر وقال : فما الذي حملك على أن تقول لرسول الله صلي الله عليه وسلم ما قلت ؟ وعلى أن تفعل برسول الله صلي الله عليه وسلم ما فعلت ؟ فقال زيد : والله يا ابن الخطاب ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه رسول الله صلي الله عليه وسلم حين نظرت إليه ولكنني لم أختبر فيه خصلتين من خصال النبوة . فقال عمر : وما هما ؟ قال حبر اليهود : الأولى : يسبق حلمه جهله ، والثانية : لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً أمـا وقد عرفتها اليوم في رسول الله فأشهدك يا عمر أنى : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلي الله عليه وسلم  .

ماذا أقول أمام هذه الأخلاق ؟! وبأي لغة أعلق ؟!

وأنا أسأل الآن وأقول : هل في لغة البشر ما أستطيع أن أعبر به عن هذه الأخلاق الساطعة ؟

ورب الكعبة فلا !!  فلندع المشهد يتألق سمواً وروعةً وجلالاً ولتردد معي أيها المحب للحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم هذه الشهادة العظيمة من خالقه جل وعلا : “وإنك لعلى خلق عظيم“.

وروى ابن إسحاق بسند صحيح مرسلا وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : أخرجه الطبراني عن أنس ورجاله رجال الصحيح من حديث عروة بن الزبير أن عمير بن وهب أُسِرَ ولده وهب بن عمير في غزوة بدر فجلس عمير بن وهب مع صفوان بن أمية وكان على الكفر والشرك ، جلساً إلى جوار الكعبة فتذكرا يوم بدر فقال عمير بن وهب لصفوان بن أمية : والله لولا دَيْنٌ علىّ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى ، لركبت إلى محمد لأقتله ، فإن لي قبلهم علة ، ابني أسيرٌ في أيديهم ، فاغتنمها صفوان بن أمية وقال : علىَّ دَيْنُك أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي ، لا أمنع شيئاً عنهم . فقال له عمير : فاكتم شأني وشأنك ، قال : أفعل ، فانطلق عمير إلى المدينة وقد شحذ سيفه وسَّمه ، فلما أناخ راحلته على باب المسجد رآه الفاروق الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه متوشحاً سيفه. فقال عمر : هذا عدو الله عميرُ بن وهب والله ما جاء إلا لشر . ثم أخذ عمر بحمالة سيفه في عنقه فلببَّه بها ثم أدخله على رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال النبي صلي الله عليه وسلم : أرسله يا عمر ، ثم قال : ادن يا عمير ، فدنا من رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم قال له رسول الله صلي الله عليه وسلم : ما الذي جاء بك يا عمير ؟ فقال : ابني أسيرٌ في أيديكم جئت لتحسنوا في فدائه . فقال النبي صلي الله عليه وسلم : أصدقني يا عمير ، ما الذي جاء بك ؟ قال : ما جئت إلا لهذا. فقال النبي صلي الله عليه وسلم : فما بال السيف في عنقك ؟ فقال عمير بن وهب : قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر ؟! فقال صلي الله عليه وسلم : (( أصدقني يا عمير ما الذي جاء بك ؟ )) قال عمير : ما جئت إلا لذلك. فقال النبي صلي الله عليه وسلم : ((بل جلست أنت وصفوان بن أمية في حجر الكعبة فذكرتما أهل بدر من قريش ، ثم قلت لصفوان : لولا دين علىّ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى ، لركبت إلى محمد لأقتله ، فتحمل لك صفوان بدَيِنكَ وعيالك ، على أن تقتلني ، والله حائل بينك وبين ذلك )) …. الله أكبر ….. فقال عمير بن وهب : أشهد أنك لرسول الله صلي الله عليه وسلم فو الله هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فو الله إني لأعلم أنه ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ، وساقني هذا المساق ثم شهد شهادة الحق ، فقال رسول الله  صلي الله عليه وسلم : (( فقهوا أخاكم في دينه وأقرؤوه القرآن ، وأطلقوا له أسيره )) هل في لغة البشر ما أستطيع أن أعبر عن هذه الأخلاق السامية ؟! .

وروى الإمام أحمد بسند صحيح من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه  أنه قال : لما قسم النبي صلي الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين أعطى لقومه من قريش ولسائر العرب ولم يعط الأنصار من الغنائم شيئا حتى وَجَدَ الأنصار في أنفسهم على رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى قال قائلهم : والله لقد لقي رسول الله  صلي الله عليه وسلم قومه ، فلما سمع سعد بن عبادة الأنصاري هذه العبارة انطلق إلى الحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم وقال  : يا رسول الله بأبي أنت وأمي لقد وَجَدَ الأنصار عليك في أنفسهم . فقال النبي صلي الله عليه وسلم : فيما يا سعد ؟ فقال سعد : لأنك قسمت الغنائم وأعطيت قومك من قريش وأعطيت سائر العرب ولم تعط الأنصار . فقال النبي صلي الله عليه وسلم:  ((اجمع لي الأنصار يا سعد )) فجمع سعد بن عبادة الأنصار رضوان الله عليهم وخرج النبي على الأنصار وقام النبي صلي الله عليه وسلم خطيباً في الأنصار : فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : (( يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالةً فأغناكم الله ، وأعداءً فألّف الله بين قلوبكم )) فسكت الأنصار فالتفت إليهم نبينا الحبيب المختار وقال : (( آلا تجيبون يا معشر الأنصار )) فقالوا : ماذا نقول وبماذا نجيب ؟! المنَّ لله ولرسول الله صلي الله عليه وسلم فقال الحبيب المصطفى : (( والله لو شئتم لقلتم فصدقتم : جئتنا طريداً فآويناك وعائلاً فواسيناك ، وجئتنا مخذولا فنصرناك ، وجئتنا خائفاً فآمنَّاك)) فقال الأنصار : (( المن لله ورسوله صلي الله عليه وسلم )) فقال النبي صلي الله عليه وسلم : (( يا معشر الأنصار لقد وجدتم في أنفسكم علىّ في لعاعة تألفت بها قلوباً دخلت الإسلام حديثاً ، ووكلتكم أنتم إلى ما منَّ الله عز وجل به عليكم من الإسلام ، يا معشر الأنصار : أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير إلى رحالهم ، وتذهبون أنتم برسول الله إلى رحالكم ، يا معشر الأنصار : والله لو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار : والله لو لا الهجرة لكنت رجلا من الأنصار ، فاللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار )) [رواه البخاري (8/37_42) في المغازي ، باب غزوة الطائف ، ومسلم رقم (1061) فى الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام]

فبكى الأنصار رضي الله عنهم وارتفعت أصواتهم بالبكاء واخضلت لحاهم وقالوا على لسان رجل واحد لصاحب الأخلاق السامية : رضينا بالله رباً وبرسول الله قسماً ومغنماً .

هل في لغة البشر ما نستطيع به أن نعبر عن هذه الأخلاق من رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم أن قال لهم (( لولا الهجرة لكنت من الأنصار )) ويوم أن كرمهم هذا التكريم ؟!!

ورب الكعبة فلا فلتردد معي أيها المسلم هذه الشهادة الذكية التي زكاه بها ربه وخالقه جل جلاله ((وإنك لعلى خلق عظيم((.

فمبلغ العلم فيه أنه بشرٌ

أغرٌ عليه للنوة خاتمٌ

وضم الإله اسم النبي لإسمه

وشق له من اسمـــــــه ليجلَّه وأنه خير خلق الله كلهم

من نور يلوح ويشهد

إذ قال في الخمس المؤذنُ أشهد

فذو العرش محمـود وهـذا مـحمد

أيها الأحبة : والله الذي لا إله غيره لو ظللت الدهر كله أتحدث عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما استطعت ولكن لخصت عائشة الصديقة الحصان الرزان رضي الله عنها هذا الخلق العظيم في كلمات محددة فقالت : كان خلقه القرآن.

ولقد جمع الله جل وعلا في شخص الحبيب المصطفى أشخاصاً كثيرة ومتعددة في آن واحد .

فهو رسول الله من عند الله يتلقى الوحي من السماء ليربط السماء بالأرض بأعظم رباط وأشرف صلة !!

وهو رجل سياسة من طرازٍ فريد ، يقيم أمةٌ ودولةً من فتات متناثر فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء تذل الأكاسرة ، وتهين القياصرة ، وتغير مجرى التاريخ في فترة لا تساوى في حساب الزمن شيئاً !!

وهو رجل حرب من طراز أوحد ، يقود الجيوش ، ويخطط للمعارك ، ويتخذ غرفةً العمليات عن بعد من أرض المعركة وهذا لم يعلمه التاريخ إلاَّ في القرن الحالي ، وقام ليختار القادة فاختار قائداً للميمنة وقائداً للميسرة ، بل ولما انفضت الجموع في حُنَين قام الحبيب المصطفى رافعاً سيفه في ساحة الوغى وميدان البطولة والشرف ، ذالكم الميدان الذي تصمت فيه الألسنة الطويلة ، وتخطب فيه السيوف والرماح على منابر الرقاب . وقف الحبيب المصطفى يوم أن انفض الأبطال والقادة ليعلن بأعلى صوته قائلاً : ((أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب)) ، ((اللهم نزّل نصرك)) قال البراء : كنا والله إذا احمرَّ البأسُ نتَّقى به وإن الشجاع منا الذي يحاذى به ( يعنى رسول الله صلي الله عليه وسلم) [رواه البخاري (8/21-37) في المغازى ، وفى الجهاد ، باب من قاد دابة غيره في الحرب ، ومسلم رقم (1776) فى الجهاد ، باب غزوة حنين ، والترمذي رقم (1688) في الجهاد ، باب ما جاء في الثبات عند القتال].

وهو أب وزوجٌ ورب أسرة كبيرة تحتاج إلى كثيرٍ من النفقات ، من نفقات الفكر .. من نفقات الشعور .. من نفقات التربية .. من نفقات النصح .. فضلا عن نفقات المال . فيقوم الحبيب المصطفى بهذا الدور على أعلى نسقٍ شهدته الأرض ، وعرفه التاريخ .

وهو إنسانيٌ من طراز فريد كأنه ما خلق ليزيل الدموع ، كأنه ما خُلق إلا ليمسح الآلام عن القلوب .. يمنح الناس وقته ، وفكره ، وعقله ، وماله ، ونصحه ، وروحه وشعوره كأنه  ما خلق إلا ليسعد الناس في الدنيا قبل الآخرة .

وهو قبل كل ذلك ، وبعد كل ذلك قائم على أعظم وأشرف دعوة شهدتها الأرض ، أخذت عقله وفكره ، وروحه ، ودمه .

فيقوم المصطفى بهذه الأدوار كلها كأنه ما خلق إلا لكل دورٍ من هذه الأدوار ، ليقوم به على أعلى نسق وأكمل صورة . فلقد بعث الله نبيه المصطفى قدوةً طيبةً فقال : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً  [الأحزاب:21].

وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والآه.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...