إمبراطورية الكنيسة الاقتصادية ..أرقام قياسية ومخاطر مجتمعية

«تقوم الهيئة العليا لشئون الوقف على تنظيم مؤسساته العامة والخاصة، وتشرف عليها وتراقبها، وتضمن التزامها بأنماط أداء إدارية واقتصادية رشيدة، وتنشر ثقافة الوقف في المجتمع.» المادة 212 من دستور 2012. لكن الكنيسة الأرثوذوكسية اعترضت بشدة على هذه المادة ومكافأة على دورها في حشد الأقباط ودورها المؤثر في 30 يونيو 2013م تم حذف هذه المادة في وثيقة الخمسين الانقلابية وكذلك دستور 2014م. هذا الموقف المتشدد من جانب الكنيسة تكرر قبل هذه الواقعة في منتصف عام 2011م عندما طرح مشروع قانون “دور العبادة” للنقاش المجتمعي وأثير ضرورة خضوع أموال الكنائس للرقابة المالية من جانب الدولة.

رفض الكنيسة جاء بصيغة النفي الجازم حاضرا ومستقبلا على لسان الأنبا باخوميوس، القائم مقام البطريرك للكنيسة الأرثوذكسية وقتها: «لن نقبل إشراف أية هيئة أو جهاز من أجهزة الدولة على أموال أو تبرعات أو مشروعات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية»، وشدد باخوميوس ، على رفضه التام لما يتردد داخل الجمعية التأسيسية للدستور عن وجود مناقشات بين بعض أعضاء الجمعية من السلفيين بشأن تقديم اقتراح لإخضاع أموال الكنائس ومشروعاتها للمراقبة من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات، كما تم اقتراح مراقبة أموال القوات المسلحة، وإقرار ذلك في الدستور.

الأكثر دهشة أن باخوميوس اعتبر مجرد طرح هذه المادة أمرا مرفوضا تماما وإذا تمت الموافقة عليها فإنها تشكل اضطهادا واضحا للأقباط مشددا «مراقبة أموال الكنيسة أمر مرفوض، ولن تقبل به الكنيسة تحت أي ظرف». وبرر المستشار إدوارد غالب، ممثل الكنيسة الأرثوذكسية في الجمعية التأسيسية لدستور الثورة “2012”م موقف الكنيسة بقوله: «مقارنة الكنيسة بالجيش في مراقبة أمواله، وإقرار ذلك في الدستور الجديد أمر غير منطقي، ولا تجوز فيه المقارنة؛ لأن القوات المسلحة تأخذ مواردها وأموالها من الدولة، لكن الكنيسة تعتمد في أموالها على تبرعات الأقباط والعشور». لكنه تجاهل بيزنيس الكنيسة ومشروعاتها الضخمة وكذلك التبرعات الكبيرة التي تأتيها من الخارج سواء من أقباط المهجر أو من مؤسسات دولية وحكومات عربية وغربية.

الرفض الكنسي لا يعود فقط إلى السمة الإسلامية التي يتميز بها نظام الوقف باعتبار الحضارة الإسلامية هي من أنشات هذا النظام ووضعت له قانونا يضبط مساره وأهدافه لخدمة الفقراء وحاجات المجتمع التي تعجز السلطة عن الإنفاق عليها؛ ولكن السبب الرئيس كان خشية الكشف عن الإمبراطورية الاقتصادية والمالية للكنيسة وإخضاعها لرقابة الدولة ليفتضح معها حجم الممتلكات والأراضي الشاسعة التي تقوم الأديرة والكنائس بضمها إليها بصفة مستمرة دون وجه حق، خاصة أن معظم هذه الأديرة والكنائس تدخل في إطار الأوقاف، كما أن ذلك كان من شأنه أن يضع بيزنيس الكنيسة وإمبراطوريتها الاقتصادية الضخمة التي تنافس إمبراطورية الجيش أمام مرآة المجتمع ومراقبته لضبط مسار مصادرها وجهات إنفاقها بحيث لا يسمح باختلاس هذه الأموال التي تعتبر مالا عاما يحق للدولة مراقبته وليست ملكا شخصيا يندرج تحت قوانين الذمة المالية والحقوق الفردية.

كما تجاهلت الكنيسة أن أموال المؤسسات الخيرية أيضا تقوم على التبرعات وليست ممولة من الحكومة، ورغم ذلك فإنها تخضع لرقابة الدولة، كما أن أوقاف الأزهر تم السطو عليها في عهد جمال عبدالناصر ، ما أفقد المؤسسة الإسلامية الأكبر في البلاد استقلالها المالي والإداري، وباتت خاضعة لسلطة الحكومة والمطالبة بالمساواة في هذه الحالة أمر منصف فإما يتم ضم أوقاف الكنيسة للدولة تحت هيئة وقف عام أو يتم رد أموال الأزهر على أن يكون للدولة حق الرقابة المالية على مصادر التبرعات وأوجه الإنفاق على الجميع دون تمييز.

وبحسب الدراسة التي أعدها المستشار حسين أبو عيسي المحامي بالنقض، والمستشار السابق بالمحاكم العسكرية[3] كشفت أن عدد الكنائس المقامة فى مصر تبلغ نحو 3126 كنيسة بحسب الإحصاءات الرسمية. وقد تضاعفت أعداد الكنائس خلال الفترة من عام 1972 وحتى عام 1996 إلى الضعف تقريبا، إذ أن عدد الكنائس في عام 1972 كان يبلغ نحو 1442 كنيسة معظمها بدون تراخيص، وكانت نسبة الحاصلة على ترخيص والمسجلة لدى وزارة الداخلية 500 كنيسة فقط، منها 286 كنيسة أرثوذكسية والباقي للطوائف الأجنبية. وارتفعت في عام 1996 لتصل إلى نحو 2400 كنيسة، ذلك بناء على إحصائية رسمية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بزيادة قدرها 1000 كنيسة تقريبا بواقع 40 كنيسة سنويا تم بناؤها خلال 25 عامًا. وزاد عدد الكنائس في نهاية 2006- أي بعد عشر سنوات- إلى نحو 2626 كنيسة رسمية، من بينها 1326 كنيسة أرثوذكسية و1100 كنيسة بروتستانتية و200 كنيسة كاثوليكية. وبحسب الدراسة يوجد أكثر من 500 كنيسة بدون ترخيص تعمل تحت غطاء “جمعية قبطية” يتم إشهارها بوزارة التضامن الاجتماعي، وبالتالي يصبح إجمالي عدد الكنائس 3126 كنيسة، بالإضافة إلي عشرات الأديرة المنتشرة في ربوع المحافظات المصرية ذات المساحات الشاسعة المذهلة والتي تتجاوز مهمتها كأماكن للعبادة والصلاة إلى كيانات اقتصادية تدر المليارات على الكنيسة. ويبدو ذلك جليا في أن مساحات هذه الأديرة تتسع لنحو 24 مليون مصلي قبطي، حسب التقديرات الكنسية وهو الرقم الذي يزيد بأكثر من أربعة أضعاف عن الأعداد التقديرية للمسيحيين في مصر.

ويعتبر الأنبا أنطونيوس في القرن الثالث الميلادي أول من أنشأ ديرا بمصر ؛ سعيا إلى خلاصه هو وأتباعه من اضطهاد الرومان، وقد عرف أنطونيوس بأنه “أبوالرهبنة”. ومع مرور الوقت لم تعد الأديرة قاصرة على الدور الديني كمكان للعبادة والرهبنة والزهد في أمور الحياة، بل تعدت حدود الاكتفاء الذاتي لتلبية احتياجاتها من الغذاء والسلع إلى ممارسة أنشطة تجارية متعددة وتصدير المنتجات حتى تحولت إلى كيانات اقتصادية مستقلة بشكل لا يجعلها في حاجة إلى الدولة، ما جعل البعض يعتبرها “دولة داخل الدولة”.

«المال والكهنوت»

وتبدو الكنيسة شديدة الحرص على سرية مصادرها المالية والتكتم على حجم التبرعات الضخمة التي تحصل عليها داخليا وخارجيا ومصرة على التستر على حجم مشروعاتها الاستثمارية لأبعد مدى ممكن بحيث تنكل بكل قبطي يفتح هذا الباب للنقاش العام فضلا عن المطالبة بضرورة مراقبة الدولة والمجتمع على مصادر هذه الأموال وكيف يتم إنفاقها في أوجهها الصحيحة من عدمه. يؤكد على ذلك ما فعلته الكنيسة مع القس إبراهيم عبدالسيد الذي ألف كتابا بعنوان «أموال الكنيسة القبطية.. من يدفع؟! ومن يقبض؟!» الذي صدرت طبعته الأولى في يونيو 1997م عن دار “ديوان” للنشر والذي تساءل فيه: « لماذا يتعجبون من طرح الأمور الكنسية للمناقشة ويستنكرون مواجهة الحقائق ويطالبون بالحفاظ على سرية ما يجرى فى الكنيسة داخل الإطار الأسرى المنغلق؟ .. الصحف حين تتناول الشئون الكنسية فهى لا تقحم نفسها فى إقطاعية خاصة، أو تسبح نحو جزيرة منعزلة فى محيط أو تتخطى أسلاكاً شائكة أو مكهربة محيطة بمنطقة مليئة بالألغام»..وتوفي بعهدها بعامين لتعاقبه الكنيسة بعدم إقامة قداس على جثمانه بعد أن أغلقت أبوابها في وجه مشيعيه بأمر من البابا الراحل شنودة الثالث سنة 1999م.

وانتهى الملف الضخم الذي نشرته صحيفة “الوطن” في مايو 2016م، تحت عنوان «أموال الرب في سراديب الكهنة» إلى حرص الكنيسة على إخفاء حجم أموال الكنيسة، ورفضها المطلق لأي رقابة من جانب الجهاز المركزي للمحاسبات أو أي جهة رقابية أخرى؛ موضحا أن الكنيسة أقامت مئات المدارس والمستشفيات فضلا عن المشروعات التنموية والخدمية ليس في مصر وحدها بل في دول عديدة بالعالم؛ كما سلط الضوء على الاتهامات التي تلاحق كهنة الكنيسة بالاستيلاء على أموال الأقباط وإهدارها فى سفريات الأساقفة الخارجية تحت بند الزيارات الرعوية والعلاجية، وركوب عدد من الكهنة أفخم السيارات، وتحول الكهنوت إلى وسيلة للثراء يسعى بعض الكهنة لتوريثها، فضلاً عن نشر إعلانات التهانى الكنسية فى الصحف بأموال الأقباط بالمخالفة لتعاليم الكنيسة أو الرهبنة.

في مقابل ذلك، فإن أوضاع الفقراء من الأقباط تزداد بؤسا رغم أن حجم التبرعات الذي تحصل عليه الكنيسة إنما يأتي تحت لافتة “رعاية فقراء الأقباط”، وفى الوقت الذى أعلن فيه القس بولس حليم، المتحدث باسم الكنيسة وقتها، عن سعيها بنهاية 2016 لوضع نظام جديد لخدمة فقراء الأقباط لن يجعل بينهم محتاجاً، كانت النيابة تحقق فى سرقة خزينة كنيسة العذراء بشبرا، على يد قبطى يدعى بيتر منير أنطون (26 سنة)، استغل عُرساً بالكنيسة للاندساس وسط المدعوين واستولى على 60305 جنيهات و700 دولار كندى. وأرجع السرقة لاحتياجه، وسبقه عشرات الحالات التى انتهت بسبب الفقر إلى السرقة أو الانتحار، منهم أشرف صابر صليب (38 عاماً)، هذا الشاب الذى هزت قصة انتحاره شنقاً بالمجاورة 40، فى منطقة العاشر من رمضان، بالشرقية، الرأى العام، بسبب ما قيل عن مروره بأزمة مالية لجأ فيها لكنيسة الأنبا مقار تارة، واستجداء عطف الجيران والأصدقاء تارة أخرى، دون جدوى، وقبله فرج رزق فرج صاحب الـ48 عاماً، الذى وُجد معلقاً على إحدى لوحات «تحيا مصر» المعدنية الضخمة على طريق مصر الإسماعيلية الصحراوى، بعد أن مر أيضاً بأزمة مالية وعجزه عن تلبية طلبات أسرته وأولاده المدرسية فصنع مشنقة وعلق جسده حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. وتعد حالة الطفل عبدالمسيح عزت عزيز، صاحب الأعوام التسعة، أشد حالات الفقر قسوة بعد أن حُبس لمدة عام فى سرقة 5 أرغفة من مخبز بجوار منزله بمركز الفشن فى بنى سويف.

امبراطورية الكنيسة

وفي الفترة الأخيرة، برزت الخلافات الفكرية والاعتقادية داخل الكنيسة في أعقاب مقتل الأنباء إبيفانيوس رئيس كنيسة القديس مقار في 31 يوليو 2018م، على يد راهبين ينتميان إلى مدرسة البابا الراحل شنودة الثالث، لكن هذه الخلافات شابتها اتهامات تتعلق بالنواحي المالية والتبرعات التي يتم جمعها بطرق غير مشروعة تحت لافتة أهداف الرعاية وبناء كنائس جديدة. وإثر الحادث وما تلاه من حوادث أخرى ومحاولات انتحار لرهبان آخرين، أصدرت لجنة الرهبنة وشؤون الأديرة برئاسة الأنبا تواضروس، قرارات في محاولة لضبط الرهبنة، تحظر خروج الرهبان من الأديرة، والتورط في أي تعاملات مالية، وطالب المسيحيين بعدم الدخول في أي معاملات مالية أو مشروعات مع الرهبان. ولم يعرف الرابط بين الحادثتين والتورط بالتعاملات المالية وفق ما أشارت له اللجنة المذكورة، إلا أنها أثارت التكهنات حول الأمر. وخرجت اللجنة ببيان آخر جاء فيه “تدعو اللجنة المجمعية للرهبنة وشؤون الأديرة القبطية الأرثوذكسية، كافة الأماكن غير المعترف بها كأديرة بتصحيح أوضاعها، وذلك بالخضوع لإشراف البطريركية عليها روحيا ورهبانيا وإدرايا وماليا في هدوء وسلام”.

ما يؤكد هذه الإمبراطورية الضخمة تصريحات البابا شنودة الثالث نفسه في حقبة التسعينات وهي شهادة موثقة بمقطع فيديو منتشر على اليوتيوب عندما كان يجيب على سبب الخلاف بينه وبين القمص الراحل متى المسكين رئيس ورهبان دير أبو مقار، الذي أكد فيه أن الدير يمتلك آلاف الأفدنة الزراعية، ويدر دخلا بملايين الجنيهات سنويا.

هذه البيانات والتصريحات الرسمية أثارت تساؤلات عديدة حول غموض المعاملات المالية للرهبان فمع تطور الزمن والتوسع في إنشاء الإبراشيات والأديرة خارج مصر، خرج على أثرها الرهبان من الصحراء المصرية إلى دول أخرى، فأصبح بعضهم يمتلكون سيارات فارهة وحسابات في البنوك، والبعض الآخر لديه ثروات تخطت 30 مليون جنيه من أموال التبرعات بدعوى بناء أديرة جديدة”.

وتضم الأديرة الكبيرة عددا من مصانع الأجبان والمخللات والعصائر ومخابز وورشا للنجارة والحدادة وصيدلية، كما تمتلك مزارع ضخمة لزراعة كل أنواع المحاصيل والفواكه، وبداخلها أيضا مزارع كبيرة لتربية الأبقار والطيور والخنازير لإنتاج اللحم والجبن والزيوت مثل زيت الزيتون، وإضافة إلى ذلك فإنها تمتلك منشآت صحية وموارد مائية مستقلة (حيث توجد بها عدة صهاريج عملاقة لمياه الشرب تكفي لتغطية حاجة أحياء بكاملها من المياه)، وهي قادرة على توليد الكهرباء. وتحوّلت أديرة أخرى إلى مشاريع استثمارية لجذب الأقباط لزيارتها في رحلات، بادّعاء وجود معجزات بها أو رفات لقديسين وشهداء عظماء لإدرار الدخل، سواء عن طريق النذور أو حركة البيع والشراء من الكافيتريات والمكتبات. ويعتبر باحثون في الشأن القبطي أن تضخم الأنشطة الاقتصادية للأديرة تجاوز مفهوم التقشف الذي تقوم عليه فلسفة الرهبنة، ويبدو ذلك جليّا من خلال الفرق الكبير بين القلالي القديمة (أماكن اعتكاف الرهبان) حيث مظاهر البساطة والتقشف وبين مبنى القلالي الجديد برفاهيته وفخامته.

ويتسبب عدم فرض الدولة سيادتها على المشروعات الاستثمارية الضخمة للكنيسة وعدم خضوعها للتفتيش من جانب أجهزة الدولة الرقابية في مشكلتين:

الأولى، ضياع حق الدولة في تحصيل كافة الرسوم الحكومية التي تقوم بتحصيلها من المشروعات الاقتصادية الربحية مثل ضرائب كسب العمل وضرائب الدخل وضرائب المبيعات وجميع الرسوم والدمغات الحكومية.

والثانية، أن إعفاء هذه المشروعات الضخمة من الضرائب والرسوم يؤدي إلى انخفاض أسعار منتجات الأديرة لأنها معفاة من الرسوم مقارنة بأسعار المنتجات الأخرى، ومن ثم يكون هناك دعم لكيان اقتصادي دون آخر ولو بطريقة غير مباشرة، وقد ينتج عن ذلك احتكار قطاعات معينة في الاقتصاد المصري وربما يتسبب في توسيع الهوة بين طبقات الشعب، بسبب ارتفاع مستوى معيشة التاجر القبطي مقارنة بغيره، لأنه يشتري من الدير بسعر أقل من السوق ويبيع أيضا بسعر أقل و هو ما يسهم في تعزيز ونمو معدلات اقتصاد الكنيسة والأقباط وربما يكون ذلك ضمن مساعي الهيمنة الاقتصادية بنظرة أكثر عمقا على المدى الطويل.

هذه الوقائع والشكوك دفعت ناشطين أقباط إلى التشكيك في “الرهبنة” ذاتها باعتبارها غطاء روحيا لانحرافات الأديرة والتستر على معاملات الرهبان خارج القانون وخارج رادار الجهات الرقابية، وتحول الرهبان إلى سماسرة، ومستثمرين، وجامعي نذور وتبرعات، وانخرطوا في بيزنس لا يعرف مداه أحد. وباتت “الأديرة دولة داخل الدولة، وهناك بعض الأديرة لا سيطرة للكنيسة نفسها عليها، كما كان الحال مع دير أبو مقار بوادي النطرون، وغيره من الأديرة”. وبذلك فإن الأديرة في مصر تتمتع بخصوصية بل بحصانة تحميها من التفتيش ومراقبة ومراجعة الحسابات والدفاتر، في حين أن فروعها في الخارج في أمريكا وأستراليا تخضع للتفتيش والمراقبة والحسابات والضرائب أيضا” في البلاد المختلفة كأمريكا وكندا واستراليا وغيرها، فلماذا يقبلون بذلك في الخارج ولا يقبلون به في الداخل؟!.

هذه الاتهامات لا تعني أن كل الرهبان مشاركون في هذا البيزنس الحرام، فثمة رهبان دخلوا سلك الرهبنة بإخلاص على أمل أن يبتعدوا عن العالم وصخبه، ويتفرغوا للخلاص الروحي، ليكتشفوا بعد ذلك أنهم فريسة لمؤسسات رأسمالية، تدير مزارع وشركات إنتاج دواجن، وثروة حيوانية، وتوظف آلاف العمال من الخارج، وتورد إنتاجها للفنادق وللتصدير أحيانا”، وأن هذه الشركات الضخمة بات الربح هو المحرك الوحيد لها؛ وبسببه استقطبوا عداوات مع الغير بحكم المنافسة الوظيفية والسوقية أحيانا، وغياب المناخ الروحي المفترض، وهكذا فإن كثيرا من هذه الأديرة هي بالأساس شركات متسترة خلف جدران الأديرة وأعمال الكهنوت والخلاص الروحي، لكنها في ذات الوقت تعمل بعيدا عن المنظومة القانونية والرقابية للدولة بشكل تام.

السطو على أراضي الدولة

لا ينافس الجيش في السطو على أراضي الدولة سوى الكنيسة عبر أديرتها المتعددة، فمن أدوات التوسع في الإمبراطورية الاقتصادية للكنيسة السطو على آلاف الأفدنة من أراضي الدولة، فبعض الأديرة والرهبان ينتهجون استراتيجية فرض الأمر الواقع لضم مساحات كبيرة إلى الأديرة من خلال بناء “قلايات” منفصلة داخل الصحراء تكون بمثابة أماكن لإقامة الرهبان، وبعد فترة يقومون ببناء سور حول تلك القلايات لتصبح هذه المساحات ضمن أملاك الدير. وعندما تقوم الدولة بإزالة هذه التعديات يتم تصوير الأمر على أنه اضطهاد ديني للمسيحيين، وغالبا ما يقوم أقباط المهجر بالتظاهر في الخارج كوسيلة ضغط على النظام للتراجع عن إزالة التعديات، وغالبا ما تتم تسوية الأمور بالتوافق وقبول الأمر الواقع.

هذه الإستراتيجية طبقتها الكنيسة وبعض الرهبان في مواقف كثيرة، مثلما جرى بخصوص مساحة أديرة الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر والأنبا فانا غرب ملوي بالمنيا، وآخرها دير الأنبا مكاريوس السكندري بمنطقة الريان في الفيوم. ففي فبراير 2011 قام المسؤولون عن دير الأنبا مكاريوس بالاستيلاء على أراض تابعة للمحمية الطبيعية بوادي الريان بما يقارب 13 ألف فدان وضمها إلى حرم الدير وبناء سور حولها بامتداد 10 كيلومترات، مستغلين حالة عدم الاستقرار التي كانت سائدة في البلاد بعد الثورة. واضطرت الدولة والكنيسة إلى الاستعانة بالأنبا مكاريوس، أسقف عام المنيا جنوب مصر، للتدخل بعد صدام ومواجهات بين الأهالي والرهبان وتم حل المشكلة من خلال تخصيص مساحة ثلاثة آلاف فدان وضمها إلى الدير، إضافة إلى ألف فدان أخرى تخصص كمحمية طبيعية، والسماح بشق طريق يصل طريق الإسكندرية بالواحات الغربية مرورا بالفيوم.

ويسهم في تعزيز هذه الشكوك والاتهامات أن «مساحات بعض الأديرة تبلغ أرقاما كبيرة لا تتناسب مع عدد الرهبان أو حاجتها إلى أماكن للعبادة، فعلى سبيل المثال تبلغ مساحة دير “أبومقار” بوادي النطرون (طريق محافظة الإسكندرية الصحراوي) نحو 2700‏ فدان وتصل مساحة دير “أبوفانا” بالمنيا (جنوب مصر) إلى 600 فدان، فيما تعادل مساحة دير “مار مينا” ببرج العرب بالإسكندرية تقريبا مساحة دير أبوفانا. وهذا يعني أن مساحة أكبر ثلاثة أديرة في مصر تبلغ نحو 3900 فدان (ما يعادل 16 كيلومترا مربعا) تكفي مساحتها لـ16 مليونا و380 ألف مُصل قبطي كحد أدنى، وهو ما يتجاوز عدد الأقباط المقدر في مصر بسبعة ملايين. وفي الوقت الذي أعلنت فيه لجنة الأديرة والرهبنة شروطها للاعتراف بالدير الحديث بأن يكون ذا “مساحة كبيرة”، فإنها في المقابل لم تحدد العدد الجملي للرهبان أو الراهبات. فهناك أديرة مثل دير “الأنبا توماس” بجبل شنشيف بمحافظة سوهاج (جنوب مصر) على مساحة 220 فدانا، لكن هذا الدير بتلك الإمكانات والمباني والمزارع الشاسعة لا يوجد به سوى 12 راهبا فقط، أي أن الراهب الواحد “يتعبّد” في أكثر من 18 فدانا.

أقباط منصفون

موقف الكنيسة أثار كثيرا من علامات الاستفهام، حتى في أوساط المفكرين الأقباط[8] الذين أبدوا عدة ملاحظات بهذا الشأن:

أولا، مشروعات الكنيسة داخل الكنائس والأديرة وكذلك مشروعات الجيش الاقتصادية مثل مصانع المكرونة والمخابز والمزارع وشركات المقاولات التي تدر ربحا يتوجب خضوعها جميعا للرقابة سواء كانت تابعة للجيش أو الكنيسة أو أي مؤسسة أخرى.

ثانيا، الحديث على أن أموال الكنيسة هى “خاصة” غير دقيق، فالمؤسسات العامة التابعة للدولة تدخل فى ميزانية الدولة، وبعدها المشروعات والشركات المساهمة القائمة على الشراكة تخضع للمحاسبة والجهاز المركزى للمحاسبات، ولكن المشروعات والمؤسسات الخاصة، التى لا تخضع للجهاز المركزى تخضع لرقابة الدولة عن طريق الضرائب، وهو ما ينطبق على الكنيسة.

ثالثا، الرقابة على التبرعات الكنسية، يجب أن يكون عن طريق تصاريح جمع تبرعات بإيصالات رسمية ومسلسلة صادرة من وزارة الشئون الاجتماعية، وكون أن الكنيسة تخالف ذلك فهو أمر راجع لها، كما أن مراقبة الجهاز المركزى للمحاسبات أو وزارة التضامن الاجتماعى ليس معناه معرفة الصادر والوارد من الأموال للكنيسة، أكثر منة مراقبة جهات التمويل المختلفة، سواء من الداخل أو الخارج، وتحديد الجهات الداعمة، وقياس مدى مشروعيتها.

رابعا، الكنيسة وضعت نفسها فى مأزق خطير عندما قررت إدارة مشروعات اقتصادية وتجارية وأنشطة اجتماعية، داخل أسوار الكنائس والأديرة، فكل الأنشطة الاقتصادية للكنائس والأديرة مثل مزارع الأديرة، والمبانى الخاصة بالكنائس والعيادات والمستوصفات وأنشطة الميديا مثل الفيديو وإنتاج الأفلام والقنوات التليفزيونية، والمصايف وكل المشروعات المدنية، يجب أن تخضع مباشرة للرقابة أو تقنين أوضاعها وتحويلها لجمعيات تابعة للتضامن الاجتماعى.

خامسا، طالب هؤلاء الدولة بعدم رقابة الأمور الطقسية مثل النذور والعشور، إضافة للتبرعات الخاصة للأعمال الروحية مثل بناء وترميم الكنائس ومرتبات الكهنة والعاملين بالأديرة والكنائس، معللين ذلك بأنها أموال خاصة، والدولة لا تصرف على أى منها ولا تعطيهم رواتب، لذا فهى لا تأخذ دعمًا من الدولة، وبالتالى لا يحق لها مراقبتها.

الخلاصة أن ميزانية الكنيسة ومصادرها لا يوجد حصر دقيق لها، لأن الكنيسة تتكتم دائما، ولاتصارح أبناءها بالأرقام الصحيحة، فمصادر الميزانية تبدأ من عائد المشروعات بالأديرة والكنائيس مرورا بالعقارات والأراضى التى تؤجرها الكنائس وتمتلكها بجوار الأديرة، انتهاء بمئات المستشفيات والمدارس والمشروعات الاقتصادية الضخمة التى يدخل فيها قيادات الكنيسة تحت أسماء مستترة لجلب المزيد من الأرباح، إضافة إلى التبرعات والنذور والعشور ودعم مجلس الكنائس العالمي وأقباط المهجر ومؤسسات دولية وعواصم خليجية مثل البحرين والإمارات بما يصل إلى مليارات ضخمة.

ويبدو أن مشاركة الكنيسة في انقلاب 30 يونيو بكثافة كان أحد أهدافه بالأساس وأد أي تحركات تستهدف فرض رقابة الدولة على بيزنس الكنيسة وفرض حالة التكتم على هذا البيزنس الضخم وتلك الإمبراطورية الاقتصادية الهائلة والتي تعفى من الضرائب والرسوم ولا تمارس الدولة عليها أي رقابة مالية؛ ويمكن تفسير الدعم والتأييد المتبادل بين النظام والكنيسة في إطار صفقة أو تسوية تقتضي الدعم المتبادل على أن تكون الكنيسة خادمة لتوجهات النظام على طول الخط وبدوره يضمن حمايتها من جهة والتغاضي عن إمبراطوريتها الاقتصادية الضخمة من جهة ثانية. وبذلك فإن الحقائق تقتضي ضرورة إصدار قانون لتنظيم عمل الأديرة والإشراف عليها من قبل الدولة لبسط سيادتها على كافة أراضيها، وهو أمر تخضع له كل المنشآت الدينية في العالم ولا يتعارض مع استقلالية الأديرة وإشراف الكنيسة عليها.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...