ابتسم.. أنت في جنّة الزعيم

أربع حرياتٍ يؤمن بها عبد الفتاح السيسي: حرية إطلاق أسعار الوقود وأسعار العملة، وحرية فتح المدد الرئاسية، وحرية تمديد الحبس الاحتياطي، وحرية المصادرة والقتل خارج القانون واتخاذ القرارات القضائية المهلكة لكل من ضبط متلبسًا بالهتاف ضد العسكر يومًا.

أما دون ذلك من حرياتٍ فهي جرائم عظمى، بعرف هذا النظام السعيد في مقبرته التي يسميها جنة، ويريد من المحبوسين في داخلها أن يتحدثوا عن النعيم الوافر.

كل العالم ينظر إلى مصر من بعيد، ويضرب كفًا بكفّ، ويشعر بالأسى على بلدٍ كان على أعتاب الالتحاق بالعصر، فارتدّ بعنفٍ إلى قيم العصور الوسطى، بكل ما فيها من كهنوتٍ مدمر للبشر، وأساليب حكم قاتلة لأية فرصة في النهوض والتقدم إلى الأمام، حيث يختزل الوطن في شخص، ويتأله الحاكم، ويوزّع أنصبة الجنة والنار كيف يشاء، ليصبح الخوف هو الديانة الرسمية للبلاد والعباد.

مبكرًا جدًا قلت إن كل شيء في مصر مسخّرٌ لصناعة حالةٍ من التوحد مع الرداءة، أو استعذاب القبح، أو الرضا بالجهل والفشل، ليظهر السيسي على خشبة المسرح، ليعلن أنه ناجح، بل وعبقري، يحقق، في أيام، ما عجز عن تحقيقه السابقون في عقود. وبهذه الأوهام المعشّشة في رأسه، بقي يتنقل من أكذوبة إلى أخرى، إذ كلما فضح الواقع واحدا من وعوده وإنجازاته الوهمية، يهرب إلى كذبةٍ أخرى، حتى نضبت بئر الأوهام.

وفي هذه الأيام النحسات، ترتفع لدى دوائر عبد الفتاح السيسي وتيرة الهتاف بالإنجازات الخارقة التي لا يشعر بها أحد، إلا السيسي ومجموعة الدجالين التي تحيط به، ثم لا يكتفون بذلك، بل يتهمون الشعب بأنه بليدٌ وجاهل، لا يدرك حجم الإنجازات الخارقة، ومن ثم، فالعيب، أولًا، في الشعب الذي لا يدرك ولا يحس بهذه الجنة الوارفة، وثانيًا، في الأوغاد الحاقدين الذين لا يريدون له النجاح.

هذا الانفصام عن الواقع المهيمن على هؤلاء الصادحين بتجليات الزعيم الأسطورة، تجد له تشخيصًا مذهلًا عند الفيلسوف الراحل الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه المدهش الذي صدر للمرة الأولى في أربعينيات القرن الماضي بعنوان “جنة العبيط”، وفيه تحليلٌ عميقٌ لشخصية الإنسان الغارق في رفاهية الإحساس بالنبوغ والعبقرية والإنجاز، داخل قوقعته، حتى إذا غادرها أمتارًا معدودةً يصاب باللوثة، حين لا يجدها كذلك في عيون الآخرين، ويعبر عن ذلك بنصٍّ ساحر يقول فيه” أنا في جنتي العالم العلامة، والحبر الفهامة، أقرأ الكفّ وأحسب النجوم، فأنبئ بما كان وما يكون، أفسّر الأحلام فلا أخطئ التفسير، وأعبر عن الرؤيا فأحسن التعبير”.

والحاصل أن صدمة لقاء CBS الأميركية فاقمت حالة الإحساس بالانكشاف أمام الخارج والداخل لدى الجنرال، فصارت ضرباته أعنف وأكثر عشوائية. وفي هذا السياق، يأتي الحكم على الناشط في حركة 6 أبريل، أحمد دومة، حيث يلخص هذا الحكم، بحبسه 15 عامًا وتغريمة ستة ملايين جنيه، حالة الهستيريا التي أصابت النظام أخيرا، مدفوعًا بذلك الإدراك بأن العالم لم يعد يتعاطى بالجدّية الكافية مع أساطيره المؤسسة لحالة القمع الإجرامي المفروضة على شعبه.

مرة أخرى تحيلك هذه الوضعية إلى التقليب في صفحات كتاب زكي نجيب محمود مرة أخرى فتقرأ:

“أما العبيط فهو أنا، وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا ما خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية عدت إلى جنتي أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنان الصقر الهرم، تغفو عيناه، فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه فإذا بغاث الطير تفرى جناحيه، ويعود فيغفو، لينعم في غفوته بحلاوة غفلته”.

…………………………………..

نقلا عن العربي الجديد

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...