سياحة إيمانية في سورة يوسف

  لا صلاح للمسلمين إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله الكريم القائل: ” تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي “. وسورة يوسف تتضمن من الدروس والعظات والعبر لو أن المسلمين التفتوا إليها لكفتهم وبيان ذلك قوله تعالى:” لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ” فلو تدبرنا سورة يوسف: الابتلاءات والمحن. ما كان مآل يوسف بعد المحن وما كان مآل أبيه بعد الصبر الجميل. حقد إخوته وحسدهم وكذبهم ومآل هذا الخلق الذميم. افتراء امرأة العزيز وكذبها وتجنيها على يوسف و مآل فعلتها الشنعاء وقوامة الرجل كيف تكون، وعيشة القصور كيف تكون في ظل الاختلاط الممجوج ؟
 سورة يوسف تقدِّم نماذج من الدروس العملية التي يجب أن تعود وتسود المجتمع الإسلامي مثل: الرحمة والعدل والتسامح وإحسان الظن وكيف نربي أبناءنا على الصدق والأمانة والصبر والعفة والحياء وغير ذلك من الأخلاق التي تعتبر علاجا لما يعانيه المجتمع والشباب.
 خلق الصبر
   الصبر جماع كثير من الفضائل، أو هو نصف الإيمان وبه نزل الكتاب وجاءت به السنة. والصبر نوعان: محمود ومذموم، والمحمود مثل صبر يعقوب ويوسف عليهما السلام.
 أما عن صبر يوسف فقد تجلى في مواقف عديدة منها:
1- صبره على حقد إخوته وإلقائه في الجب، وحين فرقوا بينه وبين أبيه، ثم الصبر على محنة الاسترقاق.
2- صبره عن المعصية، يقول ابن القيم نقلا عن ابن تيمية رحمهما الله: “كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، فهذه أمور جرت بغير اختياره، أما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا مع الأسباب التي تقوي دوافع الموافقة على مجاراة امرأة العزيز في مبتغاها:
أ- فإنه كان شابا، وداعية الشباب إليها قوية.
ب- وعزبا، ليس معه ما يعوضه ويرد شهوته.
ج- وغريبا، والغريب لا يستحي في بلد غربته.
د- ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار.
3- محنة السجن والصبر عليها، فقد تمت المواجهة بين يوسف والشاهد، وظهرت براءة يوسف، فهددته امرأة العزيز أمام النسوة، وأصبح مواجها بعدة ضغوط :
أ- امرأة العزيز كانت في غاية الحسن.
 ب- كانت ذات مال وثروة.
 ج- النسوة اجتمعن عليه وكل واحدة منهن ترغبه.
 د- أنه ـ عليه السلام ـ كان خائفا من شرها وإقدامها على قتله.
 لكنه قال: { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ }.
– محن ومحن تسلم إلى أختها، فمن محنة الجب إلى محنة الاسترقاق إلى محنة امرأة العزيز إلى محنة السجن – ظلما – إلى محنة المنصب والجاه، ويوسف صابر محتسب.
 وكما صبر الإخوان على محن: السجن والاعتقالات ومصادرة أموالهم وشركاتهم والمحاكمات العسكرية ظلما وعدوانا فهل يصبرون على ابتلاءات السلطة، السلطة التشريعية والتنفيذية بعد أن دفعوا بالمهندس ( خيرت الشاطر ) لرئاسة الجمهورية فهل يصبرون بعد أن هاج الليبراليون والعلمانيون حقدا وحسدا من عند أنفسهم ؟
  أما صبر يعقوب فقد ظهر في مواقف عديدة:
1- عندما ذهب إخوة يوسف به لينفثوا عن حقدهم وحسدهم ولم يعودوا به، فقال يعقوب عليه السلام: {… فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }.
2- تعلق يعقوب بالصبر الجميل مرة أخرى مع فراق ولده الثاني حيث قال: {… فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا…).
وتتلخص”عاقبة صبر يوسف وأبيه” عليهما السلام في قول الله تعالى:{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } . ونلحظ في قوله تعالى ” وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ” أن الجزاء الرباني على الصبر ليس وقفا على الأنبياء والمرسلين وإنما يتجاوز ذلك إلى المحسنين من عامة المؤمنين.
 خلق الحسد وعاقبته:
  حقيقة الحسد — فيما يقول الإمام الماوردي – هي ” شدة الأسى على الخيرات تكون للناس الأفضل ” وهي بذلك غير المنافسة لأن المنافسة ” طلب التشبه بالأفضل من غير إدخال حذر عليهم ” بينما الحسد مصروف إلى الضر لأن الحاسد غايته أن يعدم الأفاضل فضلهم من غير أن يصير الفضل له وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” المؤمن يغبط والمنافق يحسد“
خلق الحسد وقد وقع فيه إخوة يوسف عليه السلام وهو من الأخلاق المذمومة؛ فالحاسد يتمنى زوال ما أنعم الله تعالى على الغير من النعم.
وقد أمر الله تعالى بالاستعاذة من الحسد والحاسد فقال جلَّ شأنه: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) } (الفلق:1-5)
ويبدو محض حسد إخوة يوسف في قولهم:{ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }.
 والحسد من أُمهات المفاسد لاسيما وأن سورة يوسف تبين لنا أن إخوة يوسف أقدموا بسبب الحسد على:
1- الكذب وهو خصلة مذمومة.
2- انتزاع يوسف من حضن الأب المُشفق.
3- إلقاء يوسف في ذل العبودية.
4- إلقاء أبيهم في الحزن الدائم والأسف العظيم.
يقول الإمام الرازي: “واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لابد من تبعيد يوسف عن أبيه: وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه، ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أكثر من ذلك” (الرازي: التفسير الكبير).
والمعنى أنه لا علة لهذا الحسد إلا أن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف وأخيه.
ولعل من الدروس المستفادة في تربية الأبناء: سيطرة الأب والأم على عواطفهما وضبطها بحيث يحدثا التوازن المطلوب بين الأولاد ويكون تفضيل أحدهم أو بعضهم لعلة وسبب واضح ومعلن كأن يكون من فضلناه متقدما في دراسته متفوقا على أقرانه، مواظبا على الصلاة في المسجد وحضور دروس العلم لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى.
 عصمة يوسف
 العصمة هي المنع, وعصم الله عبدا أي عصمه مما يوبقه
أما يوسف عليه السلام فإنه حين راودته امرأة العزيز: {فَاسْتَعْصَمَ} أي تأبى عليها ولم يجبها إلى ما طلبت. فعندما غلقت المرأة الأبواب، فتح الله تعالى عليه باب الحفظ والعصمة، ولقد شهد براءة يوسف كل مَن له صلة بالواقعة، من زوج وحاكم ونسوة وملك، وشهد فوق كل هؤلاء رب العالمين وهو أصدق القائلين، فأي شبهة بعدها؟ ورغم براءة يوسف عند العزيز ووضوح البراهين الدالة على ذلك رأوا في سجنه كتمان لفضيحة المرأة سيدة القصر !
ولقد بشَّر الله تعالى عباده المتقين بشارات عديدة:
– البشرى بالعون والنصرة {. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا.} (النحل: من الآية 128).
– تصريف الغم والمحنة والخروج منها {… وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (الطلاق: من الآية 2).
– النجاة من العذاب والعقوبة {. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا..} (مريم: من الآية 72).
– نيل الجزاء بالمحنة {… إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } (يوسف: من الآية 90).
– الأمن من الفزع والمصائب { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } (الدخان: 51).
– زوال الخوف والحزن {… فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (الأعراف: من الآية 35).
حكمة الداعي إلى الله
   الداعي إلى الله هو الذي يُصلح حياته لصالح الدعوة، والداعي قد تمر عليه من الظروف القاسية ما يكاد يكسر قلبه ويقعد بهمته عن المُضي في دعوته لولا تثبيت الله تعالى له، وقد التزم يوسف بالمنهج الإلهي في الدعوة حين دخل السجن صابرا ولم تشغله مصيبته عن الدعوة {ودخل معه السجن فتيان…}، فلم يبدأ يوسف بتكفيرهم وهم كفار حقيقة، ولم يبدأ بتجهيلهم وهم جهلة حقيقة، إنما بذر الأمل والرجاء، وبشَّرهم بالأجر. يقول ابن عباس:” كان يعزي فيه – أي السجن- الحزين ويعود فيه المريض ويداوي فيه الجريح، ويصلي الليل كله، ويبكي حتى تبكي معه جدر البيوت وسقفها، وظهر به السجن، واستأنس به أهل السجن، فكان الرجل إذا خرج من السجن رجع حتى يجلس في السجن مع يوسف، وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه”.
الدروس المُستفادة
1- الثقة في الله:
الإيمان بالله تعالى والثقة أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، والصبر على الابتلاءات، فما أن صَبَرَ يعقوب عليه السلام حتى أنعم الله عليه بلقاء ولديه– بل إن صبره كان الصبر الجميل {فصبرٌ جميل والله المُستعانُ على ما تصفون}.
2- التوكل على الله لا يضاد الأخذ بالأسباب:
  الله تعالى هو المقدر، وهو مسبب الأسباب، والقدر من الله لا ينفي أن يأخذ الإنسان بالأسباب، ويتجلى ذلك في قول يعقوب لأبنائه: { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ }
ومع ذلك كله يلفتنا يعقوب إلى عموم القدرة الإلهية والقدر الإلهي بقوله: { وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ }
3- المحنة لا تمنع الداعي من الدعوة:
رغم محنة السجن فإن يوسف انتهز سؤال السجينين ليبين لهما متسائلا: هل الشرك وما فيه من المتناقضات والأرباب المتعددة خير أم التوحيد وعبادة الإله الواحد الأحد؟ {. يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ..}
 
4- عفة الداعية:
لقد تجلت عفة يوسف في صبره وجلده وانتصاره على كل عوامل إغواء زوجة عزيز مصر، إلا أنه يُعرض عنها ويقاوم قائلا: { مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ…}.
5- الداعي عَفُوٌّ كريم:
يوسف يعفو عن إخوته وقد أساؤوا إليه، يعفو عنهم وهو قادر على الأخذ والعقاب، فقد كانت السلطة بيده: { قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } فأجابهم يوسف إجابة المتسامح { قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ…}.
لقد أبانت هذه التأملات عن عواقب الأعمال: إن خيراً فخير وإن شراً فشر، أبانت عن عاقبة الصدق وحسن عواقب الصادقين، عاقبة الصبر وحسن عاقبة الصابرين… كشفت عن ابتلاء المخلصين أنواع المحن والشدائد ثم تبديلها نتيجة الصبر والتقوى بأنواع الألطاف والمنن الإلهية. فخرج يوسف من السجن إلى سدة الحكم لينقذ مصر من هلاك محقق
 أما وقد خرج الإخوان المسلمون من سجون الطغاة البغاة, وقد حملهم الشعب إلى سدة السلطة التشريعية في مصر, فندعو الله أن يجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر وأن يجعلهم من الصادقين الصابرين على المحن وابتلاءات السلطة وأن يجعل رفعة مصر والمسلمين على أيديهم وأن يتداركهم الله بلطفه الذي من تلطف به كفاه
 أما في رسول الله يوسف أسوة * لمثلك محبوسا على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في الحبس برهة *فآل به الصبر الجميل إلى الملك
x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...