اعرف نفسك تعرف ربك

ما بين الحين والآخر، يحتاج المرء إلى مَن يأخذ بيده إلى طريق الله سبحانه..وبينما أقلِّب صفحات كتاب الفوائد لابن القيم: استوقفتني كثيراً كلمات قيمة قالها ابن القيم رحمه الله.. وقلت هذا هو الطريق الموصل، واستشعرت حلاوة هذه الكلمات المفعمة بالمشاعر الصادقة.. فقلت ما أحوجنا إلى هذه المعاني في هذا الوقت العصيب.. فنحن بصدق في هذه الفتن وما يُكاد لنا ولبلدنا، والاستقواء بالقوى التي تسعى للخراب ولا تريد الخير.. نحتاج إلى هذا الباب..
وإليكم هذه الكلمات لتعرفوا صدق قولي، وتشعروا بما استشعرت، لعلنا نأخذ زاداً يقوينا ويلهمنا..
نِعم تستوجب الشكر:
مَن لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه، فاعلم أن الله تعالى خلق في صدرك بيتا وهو القلب، ووضع في صدره عرشا لمعرفته يستوي عليه المثل العلي فهو مستوى عرشه بذاته بائن من خلقه، والمثل الأعلي من معرفته ومحبته وتوحيده مستو علي سرير القلب وعلي سرير بساطا من الرضا، ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره، وفتح له بابا من جنة رحمته والأنس به والشوق إلي لقائه، وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات، والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس، وجعل في وسط البستان شجرة معرفة فهي تؤتي أكلها في كل حين بأذن ربها من المحبة والإنابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه وأجري إلي تلك الشجرة ما يسقيها من تدبير كلامه وفهمه والعمل بوصاياه، وعلق في ذلك البيت قنديلا أسرجه بيضاء معرفته والإيمان به وتوحيده فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، ثم أحاط عليه حائطا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين، ومن يؤذي البستان فلا يلحقه أذاهم وأقام عليه حرسا من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه، ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائما همه إصلاح السكن ولم شعثه ليرضاه الساكن منزلا، وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلي إصلاحه ولمه خشية انتقال الساكن منه، فنعم الساكن ونعم المسكن..
بيان النعمة يدل على عظمة المنعم:
فسبحان الله رب العالمين. كم بين هذا البيت وبيت استولى عليه الخراب وصار مأوى للحشرات والهوام، ومحلا لإبقاء الأنتان والقاذورات فيه، فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن فيها ولا حافظ لها، وهي معدة لقضاء الحاجة مظلمة الأرجاء منتنة الرائحة، قد عمها الخراب وملأتها القاذورات فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا مَن يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام، الشيطان جالس على سريرها، وعلى السرير بساط من الجهل تخفق فيه الأهواء وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات، قد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة والركون إلى الدنيا والطمأنينة بها، والزهد في الآخرة، وأمطر وابل من الجهل والهوى، والشرك والبدع ما أنبتت فيه أصناف الشوك والحنظل والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات من الزوائد والتنديبات والنوادر والهزليات والمضحكات، والأشعار الغزليات والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات وتزهد في الطاعات، وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والإعراض عنه، فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي واللهو واللعب والمجون والذهاب مع كل ريح واتباع كل شهوة..
ومن ثمرها الهموم والغموم والأحزان والآلام، ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وقلق ومعيشة ضنك وأجري إلى تلك الشجرة ما يسقيها من إتباع الهوى وطول الأمل والغرور، ثم ترك ذلك البيت وظلمائه وخراب حيطانه بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان مؤذ ولا قذر، فسبحان خالق هذا البيت، فمن عرف بيته وقدر الساكن فيه وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه، ومن جهل ذلك جهل نفسه وأضاع سعادته.
كلمات رائعة، وتشبيه بديع ومحرق لكل قلب حي.. فأي الطريقين أحق بالأمن.. أتحب العمار؟ أم تعشق دار البوار؟… خبرني بربك أي المسالك أنت سالك؟
أفق فالقطار بدأ يقترب من محطتك وأنت لاه غافل، ويحك أفق قبل زيارة من لا يمهل وقوله كلا، فما زال النداء يدوي.. توبة نصوح عسى بها تكفر الذنوب.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانـا *** واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا
أما ترين المنايـا كيـف تلقطنـا *** لقطـاً وتلحـق أخرانـا بأولانـا
في كل يـوم لنـا ميـت نشيعـه *** ننسـى بمصرعـه آثار موتانـا
يا نفس مالي وللأمـوال أكنزهـا *** خلفي وأخرج من دنيـاي عريانـا
ما بالنا نتعامى عـن مصارعنـا *** ننسى بغفلتنا مَـن ليـس ينسانـا
قال الأسود بن سالم : ركعتان أصليهما لله أحب إليّ من الجنة وما فيها، فقيل له هذا خطأ، فقال : دعونا من كلامكم : الجنة رضى نفسي، والركعتان رضا ربي، ورضى ربي أحب إليّ من رضى نفسي..
العارف في الأرض ريحانة من رياحين الجنة إذا شمها المريد اشتاقت نفسه إلى الجنة. قلب المحب موضوع بين جلال محبوبه وجماله، فإذا لاحظ جلاله هابه وعظمه وإذا لاحظ جماله أحبه واشتاق إليه.
من أنواع معرفة الله تعالي:
من الناس مَن يعرف الله بالجود والإفضال والإحسان، ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم والتجاوز، ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام، ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة، ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء، ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته وإغاثة لهفته وقضاء حاجته.
وأعظم هؤلاء معرفة من عرفه من كماله فإنه يعرف ربا قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال، ومنزه عن المثال، برئ من النقائض والعيوب.
له كل اسم حسن وكل وصف كمال، فعال لما يريد، فوق كل شيء ومع كل شيء، وقادر علي كل شيء ومقيم لكل شيء، أكبر من كل شيء وأجمل من كل شيء، أرحم الراحمين وأقدر القادرين وأحكم الحاكمين، فالقرآن أنزل لتعريف عباده به وبصراطه الموصل إليه وبحال السالكين بعد الوصول إليه..
تواطؤ اللسان والقلب علي ذكر الله:
من الذاكرين من يبدئ بذكر اللسان وإن كان عل غفلة ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه فتواطأ على الذكر، ومنهم من لا يرى ذلك ولا يبتدئ على غفلة بل يسكن حتى يحضر قلبه فيشرع في الذكر بقلبه، فإذا قوي استتبع لسانه فتواطأ جميعا.
– فالأول ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه.
– والثاني ينتقل من قلبه إلى لسانه من غير أن يخلو قلبه منه، بل يسكن أولا حتى يحس بظهور الناطق فيه، فإذا أحس بذلك نطق قلبه ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني، ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذاكر، وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب واللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده.
موقفان للعبد بين يدي الله:
للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه في الموقف الآخر ومَن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدَّد عليه ذلك الموقف.
قال تعالي: ” وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا “ الإنسان 26، 27.
إليك إلـه الخلق أرفع رغبتي ××× وإنْ كنتُ ياذا المنِّ والجودِ مجرمَا
وَلَمَا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ××× جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلّمَا
تَعَاظمَنِي ذنبي فَلَمَّا قَرنْتُه ××× بِعَفْوكَ رَبي كَانَ عَفْوَكَ أَعْظَما
فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ ××× تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا
فَلَولاَكَ لَمْ يَصْمُدْ لإِبْلِيسَ عَابِدٌ ××× فَكَيْفَ وَقَدْ أغْوى صَفيَّكَ آدَمَا
فيا ليت شعري هل أصير لجنةٍ ××× أهنا وأما للسعير فأندما
فَللَّهِ دَرُّ الْعَارِفِ النَّدْبِ إنَّهُ ××× تفيض لِفَرْطِ الْوَجْدِ أجفانُهُ دَمَا
يُقِيمُ إذَا مَا الليلُ مَدَّ ظَلاَمَهُ ××× عَلَى نَفْسِهِ مَنْ شِدَّةِ الْخَوفِ مَأْتمَا
فَصِيحاً إِذَا مَا كَانَ فِي ذِكْرِ رَبِّهِ ××× وَفِي مَا سِواهُ فِي الْوَرَى كَانَ أَعْجَمَا
وَيَذْكُر أيَاماً مَضَتْ مِنْ شَبَابِهِ ××× وَمَا كَانَ فِيهَا بِالْجَهَالَةِ أَجْرَمَا
فَصَارَ قَرِينَ الـهَمِّ طُولَ نَهَارِهِ ××× أَخَا السُّهْدِ وَالنَّجْوَى إذَا اللَّيلُ أظلَمَا
يَقُولُ حَبيبي أَنْتَ سُؤْلِي وَبُغْيَتِي ××× كَفي بِكَ للرَّاجِينَ سُؤْلاً وَمَغْنَمَا
أَلَسْتَ الَّذِي غَذَّيتني وهديتَنِي ××× وَلاَ زِلْتَ مَنَّاناً عَلَيَّ وَمُنْعِمَا
عَسَى مَنْ لَهُ الإِحْسَانُ يَغْفِرُ زَلَّتي ××× وَيَسْتُرُ أَوْزَارِي وَمَا قَدْ تَقَدّما
تعاظمني ذنبي فأقبلتُ خاشعاً ××× ولولا الرضا ما كنتَ يا ربِّ مُنْعما
فإن تَعْفُ عني تَعْفُ عن متمرِّدٍ ××× ظَلُومٍ غَشُومٍ لا يزايلُ مأثما
فإن تستقمْ منيَ فلستُ بآيسٍ ××× ولو أدخلوا نفسي بجُرْم جهنَّما
فجرمِي عظيمٌ من قديم وحادثٍ ××× وعفوُك يأتي العبدَ أعلى وأجْسَما
حَواليَّ فضلُ اللَّه من كل جانب ××× ونورٌ من الرحمن يفترش السَّمَا
وفي القلب إشراقُ المحبِ بوصلهِ ××× إذا قارب البشرى وجاز إلى الحمى
قالَ ميمونُ بنُ مِهرانَ:” إنَّ التَّقِيَّ أشدُّ محاسبةً لنفسِهِ مِن سلطانٍ عاصٍ، ومِن شريكٍ شحيح“.
من عرف ذلك كله.. عرف ربه.. ومن عرف ربه أنس به.. ومن أنس بربه استوحش كل شىء إلا الله والأنس به..
اعرف نفسك تعرف ربك.. هذا هو الطريق.. فهل تلجه؟ أم مازلت متخبطا، ولم تفق من الغفلة.. ادخل عليه يفتح لك.. لا تنتظر فإنك في غير مأمن، فإن تأمن تهلك ” أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ” (99) سورة الأعراف.
 اللهم بصرنا بعيوبنا، وطهر نفوسنا، وأدلنا عليك، وأدخلنا في رحمتك، وأسعدنا برؤيتك، وارضى عنا ورضنا، وارزقنا حسن الخاتمة.
x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...