الظلمِ أسبابه وأخطاره وسبل الخلاص منه

إن الله لم يخلق الإنسان ويتركه هملا للأهواء تعبث به كيف تشاء بل أنزل له تشريعات تحفظ كرامته وترعى إنسانيته ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحديد: 25.
 فدعوة الرسل جاءت من أجل إقامة العدل ونصرة المظلوم. وجل معارك الرسل مع الطواغيت إن لم يكن كلها إنما كانت من أجل تحرير الإنسان من الظلم بكل أنواعه ؛ فموسى عيه السلام بعثه الله ليطالب بإطلاق سراح بني إسرائيل من ظلم فرعون قال تعالى: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) طه: 47.
وكانت دعوته منة من الله على المظلومين ليتحرروا من ظلم الظالمين: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) القصص.
ومحمد صلى الله عليه وسلم كما أرسل لتحقيق التوحيد أرسل أيضا لتحرير الإنسان من كل أنواع الظلم والفساد؛ فقد أمر تعالى في شريعته بإقامة العدل وحرم البغي فقال: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل: 90.
 وقال: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) النساء.  58.
وجعل الحرب على الظلم حربا على الجهل والأهواء إذ هما سببان رئيسان للظلم وإثارة الغرائز البهيمية الشيطانية ولذلك حذَّر منها في معرض الأمر بتطبيق شرعه فقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) الجاثية: 18.
وكذلك فعل وامتثل صلى الله عليه وسلم ؛ فعن عبد الله بن أبي سفيان قال: جاء يهودي يتقاضى النبي صلى الله عليه وسلم فأغلظ للنبي صلى الله عليه و سلم فهمَّ به أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ما قدس الله أو قال: ما يرحم الله أمة لا يأخذون للضعيف منهم حقه غير متعتع). ثم أرسل إلى خولة بنت حكيم فاستقرضها تمراً فقضاه. شعب الإيمان (11230).  ويجعل من ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه برنامجا يسوس به رعيته إذ قال:( الضعيف منكم عندي قوي حتى آخذ الحق له، والقوي منكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه).
ويساوي عاملهم على القضاء (القاضي شريح) بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين خصمه اليهودي في مجلس القضاء. ويحكم قاضيهم على خليفتهم لصالح خصمه اليهودي حتى قال اليهودي: “بهذا العدل قامت السماوات والأرض“.
 أيها الإخوة؛ إن الظلم ليس وليد نفسه، وإنما له منابع وأسباب منها الجهل وتسلط الأهواء والغرائز على الظالمين حكاما كانوا أو محكومين: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) الروم:  2
عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (..اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم). صحيح مسلم (2578 ). ومن أسبابه الاغترار بإمهال الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته). قال ثم قرأ (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد). صحيح البخاري (440).
ومنها نسيان أو جهل التعاليم الإسلامية المتعلقة بالظلم والتي في مقدمتها جهل حرمة الظلم فعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا..) صحيح مسلم ( 2577 ). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه…). صحيح البخاري 2310.
ومن أسباب الظلم جهل أن المظلوم منصور على الظالم ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حين يفطر ودعوة المظلوم يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عز وجل وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين). سنن الترمذي (2526).  قال الألباني: صحيح. وجهل أن عاقبة الظلم في الآخرة وخيمة ؛ ظلمات، فعن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم). صحيح مسلم 2578.  وحرمان شفاعة ؛ فعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم و كل غال مارق) الجامع الصغير وزيادته (7246). قال الشيخ الألباني: ( حسن ) انظر حديث رقم: 3798 في صحيح الجامع. وعذاب؛ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مَن ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين). صحيح البخاري (2321).
أيها الإخوة المؤمنون اعلموا أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه والتعدي على الخلق بالباطل، وهو أنواع ثلاثة، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الظلم ثلاثة فظلم لا يغفره الله و ظلم يغفره و ظلم لا يتركه فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك قال الله: (إن الشرك لظلم عظيم) وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم و بين ربهم و أما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدبر لبعضهم من بعض) الجامع الصغير وزيادته (7408). قال الألباني: حسن. انظر حديث رقم: 3961 في صحيح الجامع. فالظلم الذي لا يترك ظلم الناس وأشده الظلم السياسي المتمثل في الاستبداد ومصادرة حرية الناس واستخدام السلطة في قهر العباد واستضعافهم واعتقالهم وتكميم أفواههم ومضايقتهم في أرزاقهم قال ابن خلدون: (ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو مشهور بل الظلم أعم من ذلك وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه فجباة المال بغير حقها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة ووبال ذلك كله عائد الدولة بخراب العمران) مقدمة ابن خلدون ص 223.
ومن أجل تحقيق الأمن والاستقرار والحرية للبشرية فإن الإسلام ـ أيها الإخوة ـ وصل به الأمر إلى أن شرع النضال من أجل تحرير المظلومين (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) النساء: 75.
وما شرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا من أجل مقاومة الظلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله). رواه الترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد. صحيح الترغيب والترهيب (2308). وعن أنس: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلنا يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال تكفه عن الظلم فذاك نصره إياه). سنن الترمذي (2255). قال الشيخ الألباني: صحيح. وعن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم). سنن الترمذي (2169). قال الألباني: حسن.
أيها الإخوة؛ لقد تحدث القرآن الكريم عن سنة الظلم والظالمين فبين أن الظالمين لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة ولا تتخلف سنة الله عنهم سواء كان ظلمهم الإشراك بالله أو ظلمهم لأنفسهم أو ظلمهم الخلق: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الأنعام 135 (. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الأنعام: 21. وبيَّن أن الرعية الظالمة التي يتظالم أفرادها فيما بينهم يولى عليهم حاكم ظالم فيكون تسلطه عليهم من العقاب على ظلمهم: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) الأنعام: 129. وبيَّن أن الأمة الظالمة هالكة بسبب ظلمها (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام 45.
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) الأنعام: 47 )وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ) الأنبياء: 11. (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً) الكهف: 59.
وهذه السنة مستمرة مطردة في كل أمة ظالمة  ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102 ) (وبين أن الديار صائرة إلى الخراب اقتصاديا وعمرانيا: قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) الرعد  41: فإن الجور والظلم يخرب البلاد بقتل أهلها وانجلائهم عنها وترفع من الأرض البركة. تفسير القرطبي (جز9- ص284). عن ابن عباس أنه قال: “أجد في كتاب الله تعالى أن الظلم يخرب البيوت وتلا قوله تعالى (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) النمل: 52. وفي التوراة: “ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك” قيل: وهو إشارة إلى هلاك الظالم إذ خراب بيته متعقب هلاكه ولا يخفى أن كون الظلم بمعنى الجور والتعدي على عباد الله تعالى سببا لخراب البيوت. روح المعاني (جزء 19- ص215). وبيَّن ـ أيضا ـ أن الدولة العادلة تبقى وإن كانت كافرة وأن الدولة الظالمة تزول وإن كانت مسلمة إذ العدل أساس الملك: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) هود: 117. قال القرطبي رحمه الله: (“وأهلها مصلحون) أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان وقوم لوط باللواط ودلَّ هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك وإن كان عذاب الشرك في الآخرة”. تفسير القرطبي (ج 9 ص98).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الإشراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم ولهذا قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوما في الآخرة وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة“. مجموع الفتاوى ج28ص146
الخطبة الثانية:
وبعد  أيها المؤمنون ؛ اعلموا أن أخطر ما يزرعه الظلم الاستهانة بكرامة الأمة حتى تسلب أخص خصائصها وهو حريتها فتصبح غير قادرة على المقاومة لأنها ذليلة ضعيفة ؛ إذ الظلم يورث الذل والضعف ولهذا يربِّي الإسلام أمته على شعار: “متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”. المستطرف ( ج1 – ص239). ولذلك كان لابد من الوقاية منه من خلال أمور منها الإنكار على الظالم أيا كان ونصرة المظلوم ؛ عن قيس قال: قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ..) المائدة: 105 وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب). سنن أبي داود (4338). قال الألباني: صحيح.
وفي الحديث: ( أمِر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة فجلد جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه نارا فلما ارتفع عنه وأفاق قال: على ما جلدتموني؟ قالوا: إنك صليت صلاة واحدة بغير طهور ومررت على مظلوم فلم تنصره). السلسلة الصحيحة (2774). ومنها عدم الاستكانة للظالمين، والانتصار على الظالمين الباغين بتفردهم في الرأي وتمردهم على مشورة أقوامهم (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ(39)) الشورى. قال القرطبي: ( أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه). تفسير القرطبي ج16- ص35. وقال إبراهيم النخعي: ( كانوا ـ أي الصحابة ـ يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا). صحيح البخاري (ج2- ص 863). وعُد من مات دون حقه من الشهداء ؛ فعن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن قتل دون مظلمته فهو شهيد“. سنن النسائي (4093). قال الألباني: صحيح.
ومن سبل الوقاية من الظلم ؛ التحذير من إعانة الظالم على ظلمه ؛ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن أعان على خصومة بظلم (أو يعين على ظلم) لم يزل في سخط الله حتى ينزع“. سنن ابن ماجه (2320). قال الألباني: صحيح. (حتى ينزع) أي حتى يترك ذلك بالتوبة. وعن ابن عباس قال: “من أعان ظالما ليدحض بباطله حقا فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله“. الجامع الصغير وزيادته (10993). قال الألباني: حسن. انظر حديث رقم: 6048 / 1 في صحيح الجامع الصحيحة ( 1020 ).
ولذلك شمل العذاب أعوان فرعون ولم يفرد به فرعون وحده:  ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) القصص: 40. وسمَّاهم ظالمين مع أن فرعون هو الظالم ولكن صاروا مثله لما أعانوه. وهذا يشمل حتى مَن دعا له كما في مدرسة الحسن البصري القائل: “مَن دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه“.الفوائد المجموعة (ج1- ص211). ومن سبل الوقاية ـ أيضاـ عدم الركون إلى الظالمين بأي نوع من أنواع الركون حتى يعجزوا أو يضعفوا عن ارتكاب الظلم ؛ لأنهم لا يرتكبون الظلم إلا بأعوانهم وبسكوت أهل الحق عنه أو بركونهم عليهم ؛ (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) هود: 113. قال الزمخشري:”والنهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم. وذكرهم بما فيه تعظيم لهم”. الكشاف (ج1 – ص565).
والظلم ـ أيها الإخوة ـ ربما يشترك فيه الظالم والمظلوم ؛ أي أن المظلوم قد يكون ظالما وذلك إذا لم يبذل جهداً في مقاومته ومحاربته (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) الزخرف: 76. ظلموا أنفسهم حين جهلوا الحق ولم يعملوا به ولم ينصروا مَن حارب الظلم والفساد. (.. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) سبأ: 31. فهما يقفان معا للحساب لأن المظلوم يتبع الظالم ويهتف باسمه ويصفق له (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) البقرة: 166. (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) البقرة  167
إن المظلومين يجب أن يعلنوا براءتهم في الدنيا لا في الآخرة حين لا تنفع (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)) الأحزاب. ولا يصلح لهم طاعة الظالمين كما قال تعالى على لسان نبيه صالح: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ(152)) الشعراء.
وصلوا وسلموا على مَن أمركم الله بالصلاة والسلام عليه
x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...