مراقبة الله

مراقبة الله مفهومها ، ورودها في القرآن والسنة ، درجاتها ، فضلها ، وكيفية تحقيقها ، والطريق اليها ، قصص حولها .

أولا : مفهوم المراقبة ؛
  المراقبة لغة:

مصدر مأخوذ من راقب يراقب مراقبة، وتدل على الانتصاب لمراعاة الشيء.
والرقيب : الحافظ .
وراقب الله في أمره : أي خافه.

المراقبة شرعا :

قال المحاسبي: ( المراقبة دوام علم القلب بعلم الله عز وجل في السكون والحركة علماً لازماً مقترناً بصفاء اليقين ) .

قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين:
 المراقبة : هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه ،
فاستدامته لهذا العلم، واليقين بذلك هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأنَّ الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، مطلع على عمله.
ومن راقب الله في خواطره ؛ عصمه الله في حركات جوارحه ..

ثانيا : المراقبة في الكتاب والسنة :

أ- في القرآن الكريم  :

 1 . قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} سورة آل عمران : 5.
2 . وقال سبحانه : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير ٌ} سورة الحديد : 4.
3 . وقال سبحانه : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } سورة غافر : 19 .
4 . وقال سبحانه : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} سورة البقرة: 235 .
5 . وقال سبحانه : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا } سورة الأحزاب : 52.
6 . وقال سبحانه : { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ٰ} سورة العلق: 14 .

ب – في السنة النبوية  :

1 .  عن معاذ رضي الله عنه قال يا رسول الله أوصني { قال اعبد الله كأنك تراه واعدد نفسك في الموتى وإن شئت أنبأتك بما هو أملك بك من هذا كله قال هذا وأشار بيده إلى لسانه } قال الألباني صحيح لغيره .

2 . عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ” متفق علي  رواه البخاري .
وإذا نظرت إلى هؤلاء السبعة تجد أن الشيء المشترك والوصف الذي تحقق فيهم جميعاً هو المراقبة لله تبارك وتعالى.

3 . في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم؛ كيف تركتم عبادي؟، فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ) رواه البخاري .

ثالثاً:  درجات المراقبة:

أ – الدرجة الأولى: استدامة السير إلى الله والقرب إليه مع الأنس والسرور به:

قال ابن القيم في معرض شرحه لهذه الدرجة: “فإن الحضور يوجب أنساً ومحبة، وإن لم يقارنهما تعظيم أورثاه خروجاً عن حدود العبودية ورعونة ، فكل حب لا يقارنه تعظيم المحبوب فهو سبب للبعد عنه ، والسقوط من عينه . وأما السرور الباعث فهو الفرحة والتعظيم ، واللذة التي يجدها في تلك المداناة ، فإن سرور القلب بالله وفرحه به، وقُرّة العين به لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا ألبتة… ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله عز وجل، وبذل الجهد في طلبه وابتغاء مرضاته” .

ب – الدرجة الثانية: مراقبة الله بصيانة الباطن والظاهر:

قال ابن القيم شارحاً لهذه الدرجة: “هذه مراقبةٌ لمراقبة الله لك، فهي مراقبة لصفة خاصة معينة، وهي توجب صيانة الباطن والظاهر، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة” .

ج- الدرجة الثالثة: مراقبة الله بشهود انفراده سبحانه بأزليته وحده، دوكل ما سواه فكائن بعد عدمه بتكوينه:
قال ابن القيم مبينا معنى هذه الدرجة: “وهذا الشهود متعلّق بأسمائه وصفاته، وتقدُّم علمه بالأشياء ووقوعها في الأبد مطابقة لعلمه الأزلي، فهذا الشهود يُعْطي إيماناً ومعرفة، وإثباتا للعلم والقدرة، والفعل، والقضاء والقدر .


رابعاً: فضيلة المراقبة:

أ – أن المراقبة سبب من أسباب دخول الجنة:

قال تعالى: {هَلْ جَزَاء ٱلإِحْسَـٰنِ إِلاَّ ٱلإِحْسَـٰنُ} [الرحمن:60].
قال ابن القيم مفسراً الآية: “الإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق، وهو أن تعبد الله كأنك تراه… وفي الحديث إشارة إلى كمال الحضور مع الله عز وجل، ومراقبته، ومحبته ومعرفته، والإنابة إليه، والإخلاص له، ولجميع مقامات الإيمان” .

ب – أن بها يكسب العبد رضا الله سبحانه :

قال تعالى: {رّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} [البينة:8].
قال أهل العلم: “ذلك لمن راقب ربه عز وجل، وحاسب نفسه وتزود لمعاده” .

ج – باعثة على المسارعة إلى الطاعات:

قال الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
قال القصري: “إذا عرف العبد مقام الإحسان، سارع إلى طاعته قدر وسعه، فهذا حال المحب الذي يعبد الله كأنه يراه” .

د-  يحصل بها معية الله وتأييده:

قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل:128].
قال ابن كثير: “أي معهم بتأييده ونصره ومعونته، وهذه معية خاصة” .

هـ-  معينه على ترك المعاصي والمنكرات:

قال ابن الجوزي: “فقلوب الجهال تستشعر البُعْد؛ ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكُفَّ عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة، وكفتهم عن الانبساط” .
وقال ابن القيم:  “فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته”[9].

و- من أفضل الطاعات وأعلاها:

قال ابن عطاء: “أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات”.

ز- أنها من خصال الإيمان وثمراته:

قال القصري: “فأما كونه من الإيمان فبيّن؛ لأنه في نفسه تصديق بالنظر إلى الله في الحال، أو تصديق بأن الله ينظر إليه، إلا أنه ثمرة الإيمان، وأعلاه وخالصه” .

ح- بالمراقبة يسعد العبد، وتصلح أحواله في الدارين:

قال ابن علان: “فينبغي ألا يشتغل إلا بما فيه صلاحه معاشاً ومعاداً، بتحصيل ما لا بد منه في قوام البدن، وبقاء النوع الإنساني، ثم بالسعي في الكمالات العلمية، والفضائل العلية التي هي وسيلة لنيل السعادة الأبدية… وذلك إنما يكون بالمراقبة، ومعرفة أن فيما يأتيه بمرأى ومسمع من الله سبحانه وتعالى وأنه لا يخفى عليه شيء من شأنه” .

خامساً: كيف تراقب الله؟:

أ- أن تنظر قبل العمل وأثناءه :

للمراقب أن ينظر قبل العمل الى همه وحركته أهي لله خاصة أو لهوى النفس و الحق، فإن كان لله تعالى أمضاه، وإن كان لغير الله استحيا من الله، وانكف عنه، ثم لام نفسه على رغبته فيه، وهمه به، وميله إليه، وعرّفها سوء فِعْلها، وأنها عدوّة نفسها” .

ب-  أن تراقب الله قبل الهم بالمعصية فتكفّ عنها :

إن العبد مأمور بأن يعلم أن الله يراه، فإذا هم بمعصية وعلم أن الله يراه، ويبصرُه على أي حالة كان، وأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور كفَّ عن المعصية ورجع عنها” .

ج- أن تراقب الله بعد الوقوع في المعاصي بالتوبة:

قال ابن القيم: “ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع” .

د- مراقبته في المباحات بشكره سبحانه على نعمه :

قال ابن القيم في مدارج السالكين : “ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم، فإنه لا يخلو العبد من نعمة لا بد له من الشكر عليها”.

     سادساً: الطرق المعينة على المراقبة:

أ- التعبد لله بأسماء الله وصفاته العلى :

ومن المراقبة التعبد باسمه الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير، فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة” .
قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) النساء/1، وقال: ( إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) هود/57 ، وقال: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ [المجادلة/7]، وقال:  ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الإسراء/1 .

ب- قطع أشغال الدنيا عن القلب وتعاهده بالرعاية والعناية :

جاء في كتاب الوصايا : سئل المحاسبي: عن ما يوصل المرء إلى حالة المراقبة ، فأجاب : “قطع علائق الأشغال، ولزوم العلم، والتعاهد بالعناية والرعاية” .

ج- تعظيم الله سبحانه وتعالى :

إذا ثبت تعظيم الله في قلب العبد أورثه الحياء من الله، والهيبة له، فاستحى  أن يطلع الله على قلبه وهو معتقد لشيء مما يكره، أو على جارحة من جوارحه، تتحرك بما يكره، فطهّر قلبه من كل معصية، ومنع جوارحه من جميع معاصيه” .

د- التفكر في أمور الآخرة:

 فإن العبد إذا فكر في مواطن الآخرة من موت، وقبر، وحشر،… وعلى أنه معروض على الله في ذلك العالم ومواطنه؛ تهيأ لذلك العرض”

ه – العلم بشهادة الجوارح في الآخرة.

قال تعالى: }حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) 20 فصلت
وقال تعالى: }الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ{ [يس/65].

و – العلم بشهادة الأرض بما عُمِل فوقها من المعاصي.

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا » رواه الترمذي.


سابعا : قصص في المراقبة :
جاء في  إحياء علوم الدين أن عبد الله بن دينار قال : خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة فعرّسنا في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل، فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم، فقال: إني مملوك، فقال: قل لسيّدك: أكلها الذئب، قال: فأين الله ؟ قال: فبكى عمر، ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تُعتقك في الآخرة .

سابعا قصة في المراقبة :
قصة عمر بن الخطاب حين كان يتفقد رعيته ليلاً، إذ مر على باب من أبواب بيوت المدينة، فسمع امرأة تهيئ اللبن لتبيعه نهارًا، فخلطته بالماء، فقالت لها ابنتها: إن أمير المؤمنين عمر نهانا أن نخلط الماء باللبن، فقالت لها أمها: ولكن عمر لا يرانا الآن، فقالت الفتاة المؤمنة: ولكن رب عمر يرانا.

قصة أخرى :
قصة عمر بن الخطاب حين كان يتفقد رعيته ليلاً، إذ مر على باب من أبواب بيوت المدينة، فسمع امرأة تهيئ اللبن لتبيعه نهارًا، فخلطته بالماء، فقالت لها ابنتها: إن أمير المؤمنين عمر نهانا أن نخلط الماء باللبن، فقالت لها أمها: ولكن عمر لا يرانا الآن، فقالت الفتاة المؤمنة: ولكن رب عمر يرانا.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...