عن اغتيال سليماني ودلالاته وتداعياته

ياسر الزعاترة

لا زالت أصداء اغتيال قاسم سليماني تتوالى على كل الأصعدة في الإقليم وعلى مستوى العالم أجمع، وستبقى كذلك إلى حين.

فهذا الرجل ليس شخصا عاديا بحال، والمسمى الذي يحمله (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري) لا يعبّر بحال عن حقيقة مكانته في المنظومة الإيرانية خلال ثلاثة عقود، إذ يكاد يتفوق في أهميته على خامنئي نفسه.

بدون تردد؛ يمكن القول إن سليماني هو مهندس مشروع التمدد المذهبي الإيراني؛ لجهة التخطيط والتنفيذ في آن معا، وهذه حالة غريبة ومثيرة، وتعبّر من جهة أخرى عن قدرات الرجل الاستثنائية حيث كان يتنقل من بلد إلى آخر ويشرف بنفسه على معظم تفاصيل المشروع.

هذا الاغتيال يردّ ابتداءً على تلك التحليلات السطحية التي كانت تتحدث عن تحالف إيراني أمريكي، ولا ترى أن الفوائد التي جنتها إيران من المغامرات الأمريكية هي نتاج طبيعي لعبثية تلك المغامرات، ولذكاء الاستثمار من الطرف الإيراني، وإن كان بعيدا عن المبدأ والشعار في أحيان كثيرة، كما هو الحال في الملف السوري واليمني على وجه التحديد، حيث انحازت إيران لصالح طاغية ضد شعبه، وفي اليمن بجانب أقلية انقلبت على ثورة شعب رائعة.

والحال أن ذكاء استثمار إيران لمغامرات واشنطن لم يتواصل، فقد أصيب قادة المشروع (مشروع التمدد) بحالة من غرور القوة بعد ما حققوه في العراق، بجانب انتصار حزب الله (الأول 2000، والثاني 2006) على الكيان الصهيوني، فكانت كارثة التدخل في سوريا التي قلنا مرارا إن قادة إيران سيتذكرونها بوصفها أسوأ قرار يتخذونه منذ الثورة عام 1979.


غرور القوة الإيراني هو الذي أفضى إلى هذا المأزق الذي جعل اتخاذ قرار باغتيال سليماني أمرا ممكنا.

فبعد وضع مميز لإيران في الإقليم، جاء العبث الطائفي في العراق، ثم التدخل في سوريا واليمن، ليضع إيران في مربع العداء مع الغالبية في المنطقة، ثم اكتملت الكارثة بحماية طبقة سياسية فاسدة في العراق، جعلت شيعة العراق ينتفضون ضد إيران، وهو أمر بالغ الأهمية في السياق المتعلق بمشروع التمدد. ثم جاءت انتفاضة الشعب اللبناني لتضيف مأزقا لأهم فروع المشروع الإيراني ممثلا في حزب الله.


تحدثنا عن العبث الإيراني الناتج عن غرور القوة، والذي جعل اغتيال سليماني أمرا ممكنا، لأن الاغتيال قرار سياسي وليس أمنيا وحسب، باستثناء حالات خاصة يعطي فيها المستوى السياسي للأمني حق الاغتيال؛ ما تيسر ذلك دون رجوع إليه.


نقول ذلك لأن الوصول للرجل كان متاحا غير مرة، وهو كان يتجوّل هنا وهناك على نحو شبه مكشوف، ولم يكن الوصول إليه أمرا صعبا، لكن القرار لم يكن متوفرا.


لا شك أن ما جرى للسفارة الأمريكية في بغداد، وقبله عمليات الاستهداف لبعض المواقع الأمريكية في العراق، قد أشعر الأمريكان بالإهانة البالغة، ما دفع إلى اتخاذ قرار الاغتيال.


ولأن قرار الاغتيال كان ذا صلة بما أشير إليه آنفا على صعيد المغامرات إياها، فإن تقديرا كهذا لا يفقهه عقل ترامب؛ برؤيته السياسية المحدودة، ما يرجّح أنه كان قرار الدولة العميقة، أو كان بدفع من نتنياهو واللوبي الصهيوني، وتم إقناع ترامب به، ففرضه على الدولة العميقة.

هل يعني ذلك أن قرار الاغتيال في هذه اللحظة كان موفقا بالنسبة لأمريكا؟ الإجابة ليست سهلة، إذ تعتمد على دقة تقدير الرد الإيراني، وجاهزية التعامل معه. رد لا يبدو من السهل الجزم بمداه، إذ سيخضع لجدل داخلي عنيف؛ ليس لجهة القدرة على إيذاء أمريكا، بل لجهة التبعات المترتبة على ذلك.

قدرة إيران على إيذاء أمريكا والكيان الصهيوني كبيرة؛ ليس باستهداف جنودها في العراق وأفغانستان وحسب، بل بضربات في مواقع كثيرة عبر خلايا نائمة موجودة، أو عبر الوكلاء في اليمن والعراق، فضلا عن ضرب الكيان الصهيوني عبر حزب الله، أو مباشرة بيد الإيرانيين من سوريا، بل حتى من بعيد عبر صواريخ بعيدة المدى أو طائرات من دون طيار.

لكن السؤال الأهم هو: هل القدرة على تحمل تبعات الرد الأمريكي كبيرة أيضا في ظل وضع اقتصادي صعب جدا، وفي ظل ارتباك في عموم المحاور التابعة؛ من العراق إلى اليمن ولبنان، بجانب سوريا الخاضعة للنفوذ الروسي؟ هذا هو الجدل الداخلي الإيراني الآن، والذي قد لا نعرف نتيجته سريعا بالضرورة، لكنه سيُراوح بين ردود كبيرة قد تنزلق إلى ما هو أكبر، أو ردود محدودة سيراها الأمريكان عادية، قياسا بأهمية الرجل المُستهدف.

أما الحديث عن ردود في الدول العربية التابعة لأمريكا، فسيكون خبرا سارا لترامب، وإن نفّس عن الغضب الإيراني.

المؤسف بالطبع أن يكون الوضع العربي في حالة مراقبة وانتظار بلا فعل، وسيكون المشهد أسوأ إذا شملت ردود إيران بعض الدول العربية، لكن ذلك يذكّرنا بحقيقة مهمة هي أن سليماني لم يكن المجرم الوحيد بحق أحلام الأمة في الحرية والتحرر عبر ما فعل في سوريا والعراق واليمن، فقد التقى بذلك مع منظومة الثورة العربية التي طاردت تلك الأحلام، ولا زالت تفعل دون كلل أو ملل، رغم أنها تسجل فشلا أيضا، تماما كما فشل هو أيضا، وأسهم في توفير الأجواء التي شجّعت على اغتياله.

بقيت مسألة مهمة، وتتمثل في ضرورة التذكير بأن جرائم سليماني في سوريا والعراق واليمن، لا يجب أن تنسينا أن قتلته كانوا وما زالوا يغطّون جرائم الصهاينة، وهم دمّروا العراق وأفغانستان، وهم من ضغط على الجميع لمنع مضادات الطيران عن الثوار في سوريا، وحوّلوها إلى “ثقب أسود” يستنزف الجميع.

والخلاصة أن أمريكا والكيان الصهيوني هم ألد أعدائنا؛ وإن كثر الأعداء في هذه المرحلة التي تشترك فيها كل القوى الكبرى في استهداف أحلام شعوبنا في الحرية والتحرر، ويدعمون الطغاة في منطقتنا، بل يخوضون في دمائنا كما تفعل روسيا في سوريا والصين مع مسلميها، وصولا إلى الهند.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...