نتائج مؤتمر برلين ومآلات الصراع في ليبيا

هدنة هشة، اتفاق وقف إطلاق نار لم يوقع عليه حفتر، وتوصيات سياسية بلا ضمانات للتطبيق، وخروقات متواصلة ووقف تصدير النفط من أكبر حقلين بشرق ليبيا للضغط على الوسطاء الأوروبيين من قبل حفتر الذي يطالب بإعادة تشكيل مؤسسة النفط على أساس المحاصصة القبلية وليس بشكل مركزي، ووعود بضغوط سياسية على الأطراف  الأجنبية، مع إطلاق مفاوضات “5+5”  الأمنية بين الأطراف الليبية برعاية دولية. هكذا تقف الأزمة الليبية أمام اختبار تطبيق التوافقات التي انتهى إليها  مؤتمر برلين الذي عقد بألمانيا  بمشاركة 12 دولة و4 منظمات دولية..

حيث تشير التطورات الميدانية  إلى أن  نتائج المؤتمر وما اتفق عليه في برلين ، ما زال بعيدا عن التحقق، حيث يسود هدوء حذر محاور القتال جنوبي العاصمة طرابلس بين قوات حفتر وقوات حكومة الوفاق الوطني، خاصة في صلاح الدين والخلاطات وعين زارة.

وكانت قوات عملية “بركان الغضب، التابعة لحكومة الوفاق اتهمت قوات حفتر بخرق الهدنة، وقصف مواقع قوات الوفاق في محور صلاح الدين جنوب طرابلس، بجانب عملية تسلل جرى إفشالها شرقي طرابلس.

وقالت مصادر عسكرية من قوات حكومة الوفاق: إن قوات حفتر فتحت النار من عدة محاور، في خرق واضح لاتفاق وقف النار،الاثنين الماضي.

مماطلة ليبية

فيما لا تزال الأزمة الليبية تشهد تجاذباً بين إصرار طرفي النزاع على رفض التصالح وبين ضغط أوروبي باتجاه إرغامهما على وقف نهائي للقتال والحوار من أجل التوصل إلى حل توافقي يمهد الطريق لإنهاء الأزمة.

وكانت وكالة “رويترز” نقلت عن السراج تأكيده رفض لقاء حفتر بشكل مباشر للتفاوض حول إعادة فتح الموانئ النفطية، فيما اشترط  حفتر قبول السراج بتشكيل إدارة جديدة لمؤسسة النفط بطرابلس تقوم على مبدأ المحاصصة المناطقية في توزيع عائدات النفط وإخراج المؤسسة من شكلها الإداري المركزي في طرابلس.

فيما بدأ الجانب الأوروبي في تشكيل لجنة أوروبية موحدة للإشراف على تطبيق اتفاق برلين الذي يقضي في أولى خطواته بوقف القتال نهائيا في جنوب طرابلس ومحيطها.

وقال دبلوماسي ليبي رفيع مقرب من حكومة الوفاق: إن “اللجنة الأوروبية على تواصل وثيق مع المبعوث الأممي، وتسرع من حركتها خشية انهيار الهدنة الحالية الهشة بين القوتين”، كاشفا النقاب عن أن الاجتماع الأول بين اللجنة العسكرية المشتركة 5 + 5 سينعقد بعد الخميس المقبل، بمشاركة أممية وأوروبية لوضع آليات وقف نهائي لإطلاق النار.

حيث لا تتوافر ثقة المجتمع الدولي في رغبة حفتر بوقف القتال بدليل الخروقات المتكررة للهدنة، حيث يدرك حفتر أن إيقاف حربه وهو على تخوم طرابلس، وعلى بعد كيلومترات قليلة منها يعني نهاية حلمه وانهيار مشروعه العسكري في حكم البلاد.

حيث ذهب حفتر لبرلين وهو يعرف جيدا أنه لن يحصل على شيء، ولذلك افتعل أزمة النفط ليفاوض بها المشاركين في القمة من أجل حصد أكبر قدر من المكاسب لصالحه، لكنها ورقة فشلت.

بينما يقلل خبراء ليبيون من الآلية التي يمكن أن تفرزها اجتماعات لجنة 5 + 5، حيث يقول الخبير الأمني الليبي، الصيد عبد الحفيط، أنها لجنة شكلية، فأصحاب القرار فيها هم الأوروبيون، مشيراً أن وزير الخارجية الألماني أكد أن الاتحاد الأوروبي سيشارك في وضع تلك الآلية وأنه سيراقب وقف القتال النهائي. وهو ما يؤكد أن العالم قرر تجاوز الفاعلين المحليين الحاليين إلى مرحلة أخرى، فاللجنة العسكرية تعني بشكل واضح تجاوز حفتر وقادة قوات الحكومة، فلن يُترك الخيار لحفتر والسراج بتحديد نقاط التماس مثلا والمعسكرات التي ستعود إليها قوات الطرفين من خلال عودة لجانهما للاستشارة معهما.

مما يعني أن خططا جاهزة ستنفذها، ما دام حفتر لا يرغب في وقف القتال وما دام السراج لا يريد حوارا قبل عودته لمواقعه الأصلية.

توصيات المؤتمر

واستمر المؤتمر أكثر من 4 ساعات، أعقبه مؤتمر صحفي مشترك للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ووزير الخارجية الألماني هايكو ماس والمبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة.

ودعا المؤتمر في بيانه الختامي إلى وقف دائم لإطلاق النار، وأن الحوار الليبي الليبي وحده الكفيل بإنهاء الصراع وفرض السلام.

كما دعا البيان الأطراف الليبية وداعميها لإنهاء الأنشطة العسكرية مع بدء وقف إطلاق النار، والوقف الشامل والدائم لكل الأعمال العدائية، كما دعا الأممَ المتحدة إلى تشكيل لجان تقنية لضبط ومراقبة تطبيق وقف إطلاق النار في ليبيا.

وحث المجتمعون جميع الأطراف الليبية على إنهاء المرحلة الانتقالية بانتخابات حرة وشاملة ونزيهة، وإنشاء مجلس رئاسي فاعل، وتشكيل حكومة موحدة وشاملة وفعالة معتمدة من مجلس النواب. كما شدد بيان برلين على محاسبة كل منتهكي القانون الدولي.

ومن جانب آخر أكد المشاركون في المؤتمر التزامهم بعدم التدخل في النزاع المسلح والشؤون الداخلية لليبيا، داعين إلى إنشاء لجنة مراقبة دولية لمواصلة التنسيق بين كل الأطراف.

ورغم أن مؤتمر برلين جاء بعد تصعيد ميداني خطير في ليبيا، إلا أن نتائج مؤتمر برلين الذي كانت طموحات كبيرة معقودة عليه، جاءت محدودة، حيث وصفت المستشارة الألمانية ميركل نتائج المؤتمر بأنها تمثل بداية سياسية جديدة، ودفعة من أجل دعم جهود الأمم المتحدة لإحلال السلام في ليبيا.

وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في المؤتمر الصحافي: إن المجتمعين اتفقوا على تشكيل لجنة عسكرية تدرس آليات مراقبة وقف إطلاق النار، وسيجري بعد أيام تعيين أعضائها من الطرفين الليبيين المتقاتليْن، ويقصد قوات حكومة الوفاق الوطني وقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر.

وكشف غوتيريش أنه ستجرى أيضا مشاورات من أجل العودة إلى مسار العملية السياسية في ليبيا، والالتزام الكامل بحماية المدنيين واحترام القانون الدولي الإنساني.

بينما أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي شاركت بلاده في مؤتمر برلين، بعد غضب كبير من هروب خليفة حفتر من موسكو ، قبل التوقيع على  اتفاق وقف إطلاق النار بإيعاز من الإمارات ومصر، فقال: إن طرفي النزاع في ليبيا لم ينجحا في بدء «حوار جدي» خلال المؤتمر الدولي الذي عقد الأحد في برلين.

وصرح لافروف للصحافيين في مطار برلين «كان المؤتمر مفيدا جدا (…) لكن من الواضح أننا لم ننجح حتى الآن في إطلاق حوار جدي ودائم» بين رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج وخليفة حفتر.

وقال لافروف: إن قمة برلين حول ليبيا اتفقت على تشكيل لجنة دولية لمراقبة وقف إطلاق النار.

وقال لافروف للصحافيين: «الوثيقة تطالب بضرورة حل الأزمة الليبية بواسطة الليبيين أنفسهم بدون تدخل خارجي». وأضاف «طرفا الصراع في ليبيا حققا تقدما بسيطا عن الاجتماع الذي جرى في موسكو في 13 يناير. اتفقا على أن يشارك كل طرف بخمسة ممثلين في لجنة عسكرية يتم تشكيلها بموجب مبادرة للأمم المتحدة”.

وظهر في المؤتمر أن فكرة إرسال قوات دولية لمراقبة إطلاق النار في ليبيا صارت أكثر تبلورا، مع ترحيب رئيس المجلس الرئاسي الليبي فايز السراج، بالمقترح، وإعراب إيطاليا وألمانيا  عن استعدادهما لإرسال قوات أوروبية لدعم السلام في البلاد، شرط الالتزام بهدنة دائمة، وهو ما يتهرب منه حفتر.

وأكد المؤتمرون أنه ليس هناك حل عسكري للصراع، وأن مثل هذه المحاولات للحل العسكري لن تؤدي إلا إلى المزيد من المعاناة للناس في ليبيا.

وفي حال اتفاق الدول المجتمعة في مؤتمر برلين على وقف دائم لإطلاق النار، يحتم عليها إيجاد آلية لمراقبة ذلك، قد تشمل إرسال قوات سلام للفصل بين الأطراف المتنازعة، ولكن ذلك لن يتحقق إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي، شريطة ألا ترفع أي من القوى الخمس دائمة العضوية حق النقض (الفيتو) في وجه هذا القرار.

كما لم تتحدد من هي الجهة التي سترسل قوات سلام إلى ليبيا، هل هي الاتحاد الأوروبي أم حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أو الاتحاد الأفريقي بتمويل دولي، أم تركيا باعتبارها وقّعت مذكرة تفاهم عسكري مع حكومة الوفاق الليبية، المعترف بها دوليا، كما لم تحسم روسيا موقفها بشأن هذه المسألة.

أما بالنسبة لتمويل هذه القوات، فتعتبر ألمانيا  راعية مؤتمر برلين، أكثر الدول المؤهلة للعب هذا الدور، بالنظر إلى قوة اقتصادها، وإعرابها عن استعدادها للمساهمة في «مهمة محتملة للجيش الألماني لحفظ الأمن”.

خلافات المشاركين

ونشبت عدة خلافات بين المشاركين في المؤتمر تتعلق بآليات تنفيذ وقف إطلاق النار، في حين شهدت برلين لقاءات ثنائية سبقت المؤتمر.

وأيضا سادت العديد من الخلافات حول إنشاء أربع لجان عمل للإشراف على وقف إطلاق النار، وكذا استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يفرض عقوبات على الأطراف التي تخرقه.

وكان من بين الخيارات المطروحة لمراقبة وتثبيت وقف إطلاق النار في ليبيا، تشكيل قوة دولية أو أوروبية تجتمع مرتين شهريا بشكل مغلق على مستوى الخبراء، لكن ألمانيا  تحفظت على هذا الاقتراح.

فيما طالبت حكومة الوفاق الوطني بآليات واضحة لمراقبة وقف إطلاق النار، بجانب إعادة فتح صمامات تصدير النفط لصالحها وإنشاء صندوق لتعويض المتضررين من الحرب، مطالبة  في حال الاتفاق على حكومة توافقية مستقبلا ألا تعتمد من برلمان طبرق، الذي يدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر.

وعقد مؤتمر برلين بمشاركة 12 دولة، هي: الولايات المتحدة، بريطانيا، روسيا، فرنسا، الصين، تركيا، إيطاليا، الإمارات، مصر، الجزائر، الكونغو، بالإضافة إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي فائز السراج، والجنرال المتقاعد خليفة حفتر، وتأتي القمة بعد أسبوع من محادثات جرت في موسكو التي غادرها حفتر دون التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار.

وأثار غياب السراج وحفتر عن الصورة التي جمعت المشاركين في القمة التساؤلات، في حين أوضحت القناة الإخبارية الألمانية الثانية أن السراج وحفتر تم دعوتهما إلى الاجتماع كل على حدة للاستماع إليهما. وقالت محطة تلفزيون الأحرار الليبية، الأحد: إن وفد حكومة الوفاق رفض لقاء حفتر، وأن الوفد رفض أيضا المشاركة في اللقاء مع حفتر في إطار مؤتمر ليبيا، كما لم يعقد لقاء بين الفرقاء الليبيين.

وقال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس لصحيفة «بيلد أم زونتاغ» الصادرة الأحد: إن إعادة الأمن والاستقرار لهذا البلد الذي مزقته الحرب منذ تسع سنوات بات «مسألة قومية» للأوروبيين الذين تعصف بوحدتهم أزمة اللاجئين، وخصوصا بعد أن تحولت ليبيا في السنوات الأخيرة إلى منطقة عبور رئيسية للمهاجرين في شمال أفريقيا.

وركزت القمة على سحب الأسلحة الثقيلة والطائرات، مع دعوة «جميع الأطراف المعنية لمضاعفة جهودها من أجل وقف مستدام للأعمال العدائية وتخفيف التصعيد ووقف دائم لإطلاق النار»، يضاف إلى ذلك إطلاق عمليات تبادل الأسرى كخطوة لاستعادة الثقة. وتريد برلين نزع سلاح الميليشيات أو إدماجهم ضمن قوى الأمن الوطني، حيث ترى في ذلك مخرجا من أجل حل الأزمة.

فيما يطالب السراج بتراجع قوات حفتر إلى مواقعها قبل الهجوم على طرابلس.

ومن أبرز ما جاء في البيان الختامي:

– دعوة الأطراف الليبية وداعميهم إلى إنهاء الأنشطة العسكرية.

– الالتزام بقرار الأمم المتحدة الخاص بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا (رقم 1970 لعام 2011)، وبذل جهود دولية لتعزيز مراقبة حظر تصدير السلاح.

– ضرورة الالتزام بوقف إطلاق النار.

– تشكيل لجنة عسكرية لتثبيت ومراقبة وقف إطلاق النار، تضم 5 ممثلين عن كل من طرفي النزاع.

– دعوة الأمم المتحدة إلى تشكيل لجان فنية لتطبيق ومراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار.

– دعوة الأمم المتحدة إلى لعب دور في مفاوضات تثبيت وقف إطلاق النار.

– إنشاء لجنة مراقبة دولية، برعاية الأمم المتحدة، لمواصلة التنسيق بين كافة الأطراف المشاركة في المؤتمر، على أن تجتمع شهريًا.

– تشكيل لجان لمتابعة المسارات السياسية والاقتصادية والعسكرية والإنسانية.

– احترام القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان ومحاسبة كل من يتورط في شن هجمات على مدنيين أو المناطق المأهولة أو أعمال خطف وقتل خارج إطار القانون أو العنف الجنسي والتعذيب وتهريب البشر.

– لا يوجد حل عسكري للصراع في ليبيا، ومثل هذه المحاولات لن تؤدي إلا إلى المزيد من المعاناة لليبيين.

– العودة إلى المسار السياسي لحل الأزمة.

– ضرورة حل الأزمة الليبية بواسطة الليبيين أنفسهم من دون تدخل خارجي.

– دعوة جميع الأطراف الليبية إلى إنهاء المرحلة الانتقالية بانتخابات حرة وشاملة وعادلة.

– دعم تأسيس حكومة موحدة وشاملة وفعالة، تحظى بمصادقة مجلس النواب.

– دعم تأسيس منظومة أمن وطنية موحدة في ليبيا، تحت سيطرة السلطة المركزية والمدنية، وقصر استخدام القوة على الدولة وحدها.

– توزيع عادل وشفاف لعائدات النفط، والامتناع عن الأعمال العدائية ضد المنشآت النفطية.

خروقات مستمرة

وأثناء انعقاد مؤتمر برلين لم يتوقف حفتر عن اعتداءاته المتكررة وخرقه لاتفاق وقف إطلاق النار، حيث قام بخرقه عسكرياً في محوري الخلاطات وصلاح الدين، مما أدى إلى سقوط قذيفة على منزل لمدنيين، بناء على تصريحات للناطق باسم الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق الوطني محمد قنونو.

وكورقة ضغط استخدمها حفتر تزامناً مع المؤتمر، اتجه لقطاع النفط كونه يعلم أنه مصدر الدخل الوحيد لليبيين، وأوقف الموانئ النفطية، الذي سيؤدي بتهوره إلى فقدان ليبيا لـ 800 ألف برميل يومياً، وخسارة قدرها 55 مليون دينار يومياً، وهو ما انعكس بالفعل على الاقتصاد الليبي خلال اليومين الماضيين،بموجة ارتفاع لأسعار كل السلع وارتفاع قيمة تداول الدولار بليبيا.

نتائج الحد الأدنى

وتضمّن اتفاق برلين، ستّة بنود توزعت بين إصلاحات في مجالات الاقتصاد والسياسة والأمن، لكنّها ركزت في المقام الأول على وقف إطلاق النار وتطبيق حظر توريد الأسلحة، وتشكيل لجنة عسكرية مشتركة من طرفي النزاع للإشراف على تطبيق وقف دائم للقتال، والبدء في مشاورات لتوحيد المؤسسة العسكرية، تتضمن برنامجاً لتفكيك المجموعات المسلحة ودمجها في المؤسسة العسكرية، كما أوكل للبعثة الأممية، المضي في تطبيق المسار السياسي من خلال لجنة الأربعين المنتظر أن تجتمع في جنيف قبل نهاية يناير الجاري، لبدء حوار سياسي من أجل تشكيل مجلس رئاسي جديد وحكومة وحدة وطنية، فيما لم يأتِ التفصيل بشكل واضح بشأن المسار الاقتصادي.

تلك القضايا التي مثلت خطوطاً عريضة، يعتبرها مراقبون للشأن الليبي أنها قواعد عامة، ترك قادة العالم في برلين تفاصيل مسارها السياسي للبعثة الأممية للدعم في ليبيا، بينما لا يزال مسارا الأمن والاقتصاد غامضَين.

وكان لافتا تغييب القمة لكلا من حفتر والسراج، فلم يصدر موقف رسمي ليبي حتى الآن من قبل ممثلي ليبيا في مؤتمر برلين، حيث أن السراج وحفتر أصيبا بخيبة أمل كبيرة، وعبّرا عن انزعاجهما أكثر من مرة في القاعات الجانبية التي جلسا فيها، من دون مشاركة في القاعة الرئيسة، التي جمعت زعماء وقادة الدول المعنية بالملف الليبي، وذلك لعدم استشارتهما في أغلب البنود التي اتُفق عليها.

وعلى الرغم من امتثال حفتر والسراج لمطلب وقف إطلاق النار، وترشيح أسماء ضباط عسكريين يمثلونهما في لجنة مشتركة مؤلفة من 10 ضباط، إلا أن المشاركين في المؤتمر لم يولوا أي أهمية لمطالبهما الأخرى، وهو ما يؤكد أن المؤتمر تجاوز كل مطالبهما، وأبلغهما عدد من المشاركين في المؤتمر بأن هذه المطالب من شأنها أن تعرقل ما توصلوا إليه من تفاهمات بشأن ليبيا.

ومن  تلك المطالب، تأكيد السراج ضرورة سحب حفتر لقواته من جنوب طرابلس وسرت قبل المضي في أي حوار سياسي في جنيف، بينما اشترط حفتر حلّ ما وصفه بـ”مليشيات الحكومة”، قبل وقف القتال وبدء أي عملية سياسية.

الحد الأدنى

وجاءت فعاليات المؤتمر دون طموحات الليبيين، حيث يعبّر الباحث الليبي في العلاقات الدولية، مصطفى البرق، عن أسفه لانخفاض مستوى الأمل المعقود على المؤتمر، مؤكداً أن المؤتمر كان يبحث مصالح الدول المتدخلة في الشأن الليبي، واستبعد مصالح الليبيين. مستدلا على ذلك، بأن المسار العسكري هو الوحيد الذي نوقش وحُدّد أعضاء لجنته العسكرية خلال المؤتمر ولم يتم التفصيل في المسارين السياسي والاقتصادي.

وأن “ما تم الاتفاق عليه هو وقف القتال لمصلحة المتصارعين على مصالحهما في البلاد؛ لكن أعمال اللجنة العسكرية الأخرى، كتوحيد المؤسسة العسكرية، وتفكيك المجموعات المسلحة، تُركت لمتابعة لجنة دولية انبثقت عن المؤتمر كما قالت ميركل”، معتبراً أن إرغام حفتر والسراج على ترشيح أسماء عسكريين للجنة، كما أُجبرا على حلّ مشكلة غلق الموانئ النفطية أخيراً، وهو ما يعني أنه تم تغييب الطرفين الليبيين نهائياً وأنهما أُحضرا إلى برلين لتلقي الأوامر فقط.

وهو ما يبدو أنه تجميد للأزمة الليبية وليس حلا لها، بحسب الأكاديمي الليبي، خليفة الحداد، معتبراً أن “المجتمع الدولي ذهب إلى حلّ المسألة العسكرية، من خلال وقف الحرب ووقف تدفق السلاح، وانتزاع أوامر الحرب من كلا الطرفين، حتى ولو كان حفتر المصرّ على الحرب، بإحلال بديل عنهما وهو اللجنة العسكرية المشتركة، كما تم تجميد المسار السياسي، حيث أن ترك المسار السياسي في شكل حوار بين الفرقاء الليبيين، بيد البعثة الأممية، “يعني تكرار الماضي وترك الحبل على غارب الزمن، الذي لن يجبر طرفَي الحوار على التوصل لتفاهمات بشأن تشكيل حكومة جديدة”، متسائلاً: “ما الجديد؟ وما الفرق؟ فهي ذات الشخصيات الماضية التي عرقلت كل الاتفاقات السابقة في باليرمو، وباريس، وحتى الصخيرات، لسنين، فكيف ستصل الآن إلى رأي مشترك؟”، مؤكداً أن الصراع سيكون أكثر حدة بنقله من ساحة المعركة إلى ساحة السياسة.

وأشار الحداد إلى “امتلاك المجتمع الدولي مسار الحلّ العسكري، والمسار الاقتصادي الذي لم تشر وثيقة برلين إلى الجهة التي ستشرف على الحوار بشأنه، بل قالت: إنه سيعود خلال أسابيع لتوحيد المؤسسات الاقتصادية”، مؤكداً أن التعبير بلفظة “سيعود”، يعني الحوار الاقتصادي الذي ترعاه واشنطن منذ أشهر، بين رؤساء المؤسسات الاقتصادية المنقسمة، وأنها من سيستمرّ في الإشراف على تلك الحوارات للتوصل إلى توحيد المؤسسات وفق مصالح خارجية.

وأكد الحداد أنّ مضمون برلين يعني تجميد الأوضاع العسكرية، وتمييع الفترة السياسية بتركها بيد المتصارعين، والتوصل إلى شكل من اقتسام المصالح الاقتصادية في المسار الاقتصادي من دون أن توضحها وثيقة المؤتمر، لافتاً إلى أن “ما دار في القاعة المغلقة في برلين كان حول حلّ خارجي للأزمة الليبية، وليس حلاً لأزمة الليبيين”.

مستقبل كارثي

ولعل تلك المآلات التي ظهرت ببرلين، هي ما دفعت السراج ليعلن يوم الاثنين، وبعد يوم من المؤتمر، أن ليبيا ستواجه وضعا كارثيا إذا لم تضغط القوى الأجنبية على اللواء المتقاعد خليفة حفتر لوقف حصار حقول النفط الذي أدى إلى وقف إنتاج الخام تقريبا.

وأضاف -في مقابلة مع وكالة رويترز- أنه يرفض مطالب حفتر بربط إعادة فتح الموانئ بإعادة توزيع إيرادات النفط على الليبيين، مشيرا إلى أن الدخل في النهاية يعود بالفائدة على البلد بأكمله.

وأعلن السراج: أنه سيحترم دعوة قمة برلين إلى وقف إطلاق النار وإجراء محادثات سياسية، لكنه لن يجلس مرة أخرى مع حفتر.

وقال مسؤول الأمن والسياسات الخارجية بالاتحاد خوسي بوريل: إن ثمة حاجة ملحة لمراقبة وقف النار، إلا أنه لم يعلق على إمكانية إرسال قوات أوروبية للمشاركة في ذلك.

وأكد بوريل أن الحل الدائم الوحيد للأزمة من خلال جهود الوساطة التي تقودها الأمم المتحدة، وعبر العملية السياسية.

كما دعا لإعادة إطلاق مهمّة مراقبة السواحل الليبية، وضمان تنفيذ الحظر المفروض من جانب الأمم المتحدة على إرسال الأسلحة لليبيا.

واعتبر أن ما تم التوصل إليه في مؤتمر برلين ليس وقفا لإطلاق النار بل هدنة.

خلفيات الأزمة وجدوى الحلول

يشار إلى أنه تتنازع على الحكم بليبيا سلطتان متنافستان منذ 2015، بعد سقوط نظام معمر القذافي عام 2011 إثر ثورة شعبية.

والسلطتان هما حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة برئاسة فايز السراج وتتخذ من العاصمة طرابلس (غرب) مقرا لها، وسلطة موازية في الشرق تدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر وتحظى بدعم برلمان طبرق المنتخب عام 2014.

في العام 2014، أطلق حفتر هجوما لطرد “المجموعات الإرهابية” من بنغازي ودرنة (شرق). وبعد سنوات من المعارك الدامية أصبحت المدينتان تحت سيطرة قواته منذ 2018.

في يناير الماضي أطلق حفتر هجوما آخر للسيطرة على الجنوب الصحراوي وتقدم سريعا ودون معارك في مدن عدة بفضل تأييد قبائل محلية، قبل أن يكشف عن هدفه النهائي وهو السيطرة على طرابلس، مركز السلطة.

ويسيطر حفتر على القسم الأكبر من الأراضي الليبية بينها الهلال النفطي، رئة الاقتصاد والواقع في شرق البلاد.

ويقول محللون: إنه لا يتقبل أن تذهب كل عائدات النفط إلى حكومة الوفاق رغم أن هذه الحكومة تعيد توزيعها على الجميع.

في الرابع من أبريل الماضي أمر حفتر قواته بالتقدم نحو طرابلس انطلاقا من المناطق الجنوبية ثم وصلت قواته سريعا إلى أبواب العاصمة.

وبحسب مصدر دبلوماسي غربي، قرر حفتر السيطرة على طرابلس “ووضع كل العالم أمام الأمر الواقع”.

كان يأمل في انتصار خاطف مراهنا على انهيار سريع لقوات حكومة الوفاق الوطني، لكنه لم يأخذ في الحسبان مجموعات مسلحة في الغرب، بينها كتائب مصراتة التي تعارضه بقوة. ولا تزال القوات الموالية لحفتر على أبواب طرابلس، ودخل اتفاق لوقف إطلاق النار بمبادرة من موسكو وأنقرة حيز التنفيذ في 12 من الشهر الجاري شابته خروقات من قبل قوات حفتر، كما تؤكد حكومة الوفاق.

وتدعم مصر والإمارات والسعودية حفتر، وتعتبر مصر والإمارات وكذلك فرنسا أن حفتر يتقدم معركة مكافحة الإرهاب، وقدمت له في السابق مساعدات عسكرية ولوجستية. كما تدعمه روسيا أيضا على الأقل سياسيا. ورغم نفيها، يشتبه في أنها أرسلت مرتزقة للقتال إلى جانب قواته.

وعبرت الولايات المتحدة عن دعمها لحفتر كاشفة عن اتصال مباشر بينه وبين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد الهجوم على طرابلس. ثم اعتمدت موقفا أكثر غموضا منذ ذلك الحين.

أما حكومة الوفاق الوطني فهي مدعومة من تركيا وقطر، وقد أعلنت أنقرة إرسال قوات إلى ليبيا لدعم قوات الوفاق.

والتدخل التركي في ليبيا تمليه عوامل جيوسياسية وعقائدية بحسب محللين. فتركيا تريد التصدي لنفوذ مصر والإمارات المعارضتين لسياستها بالمنطقة.

كما أن لتركيا دوافع اقتصادية، فحقول المحروقات في شرق المتوسط تثير اهتمامها، كما هو الحال بالنسبة لدول أخرى في المنطقة، مثل اليونان ومصر وقبرص وإسرائيل.

وتركيا المهددة بعقوبات أوروبية بسبب أعمال التنقيب قبالة قبرص حيث تحتل أنقرة القسم الشمالي من الجزيرة، تعتزم الاستفادة من اتفاق أبرمته مع حكومة الوفاق الوطني حول ترسيم الحدود البحرية كونه يوسع جرفها القاري بشكل يسمح لها بالتنقيب عن مصادر الطاقة في أعماق المتوسط.

بينما موسكو ترى ليبيا “فرصة تجارية بالتأكيد لكن أيضا جيو-إستراتيجية”.

فالوجود في ليبيا يمنح الروس وسيلة كلفتها قليلة إن لم تكن مربحة، للوقوف في وجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإضعاف الاتحاد الأوروبي.

وفي نظر روسيا “تجسد ليبيا فشل الغرب” وهي “ترغب في أن تثبت أنه يمكنها النجاح حيث فشلت أوروبا”.

ويتخوف الأوروبيون بشكل خاص من أن تصبح ليبيا “سوريا ثانية” مع تدويل متزايد للنزاع، ويريدون التخفيف من الضغط الذي يشكله ملف الهجرة على حدودها.

خاتمة

إجمالا، يعتبر مؤتمر برلين فرصة مهمة لوقف إطلاق النار والتوصل إلى حل سياسي في ليبيا، يعوقه التلاعب الإقليمي بالشأن الليبي، وعدم قابلية حفتر لتفويت الفرصة من الاستيلاء على طرابلس بعد تقدمه العسكري، الذي أوقفه مؤقتا التدخل العسكري التركي، بعد توقيع اتفاق الحماية والاستثمار، كما يعوق التوصل لاتفاق حاسم اضطراب موازين القوى والمصالح بين أمريكا وروسيا وهو ما يزيد غموض الموقف الأمريكي من القضية الليبية.

وتبقى التطورات مفتوحة على كافة الخيارات، سواء بتطوير الجوانب العسكرية إلى السياسية، خلال مؤتمر ألمانيا  المقبل في فبراير المقبل، بين وزراء الخارجية الأوربيين، والذي أعلنت عنه ألمانيا  ، الاثنين الماضي، حيث أعلنت ألمانيا  عن مؤتمر جديد بشأن ليبيا، في فبراير المقبل، لمتابعة تحقيق أهداف المؤتمر الذي عقد الأحد، موضحة أن المؤتمر الجديد سيكون على مستوى وزراء الخارجية فقط.

إلا أن انقسام الفاعلين دوليا حول الملف الليبي، يعرقل الحسم السياسي والعسكري في ليبيا، حيث لم يفرض المجتمع الدولي أية عقوبات على “حفتر”، الذي ما زالت مليشياته تخرق وقف إطلاق النار، فيما مجلس الأمن الدولي ذاته منقسم وفشل لحد الآن في إدانة هجوم “حفتر” على طرابلس ، حيث يحظى بدعم روسي وفرنسي وبدرجة أقل أمريكي، مما يطرح تساؤلات حول مدى استعداد الدول الداعمة له للالتزام بتعهداتها بوقف توفير الدعم العسكري والدبلوماسي لأمير الحرب الليبي وجرائمه.

وأيضا، يبقى غياب أية آليات فعلية لتنفيذ التعهدات، واستمرار الخلاف الكبير بين رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج، واللواء المتقاعد خليفة حفتر، ورفضهما الاجتماع معاً، كلها مؤشرات إلى أن مخرجات مؤتمر برلين ستبقى إنشائية بلا تنفيذ فعلي على الأرض.

فلم يصدر قرار بوقف حرب حفتر على العاصمة الليبية وبقية مدن الشرق الخارجة عن سيطرة مليشياته، ولا ظهر أن هناك قراراً دولياً حقيقياً بوضع ثقل ما لإنهاء الحرب وبدء مسار سياسي أمني طويل ينتهي باتفاق على إعادة إنتاج السلطة عبر الانتخابات وتوحيد المليشيات من الطرفين في جيش وطني على طريق بناء دولة ومؤسسات. ومن بين الأدلة على غياب القرار الدولي بوقف الحرب المدوّلة في ليبيا، اعتراف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن القوى الكبرى “لم تنجح بعد في إطلاق حوار جاد وراسخ” بين الأطراف المتحاربة. لكن ما حصل عملياً هو شبه اتفاق دولي، في ظل غياب الطرفين الليبيين المعنيين، السراج وحفتر، ودولتين جارتين رئيستين، هما تونس والمغرب.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

السيسي يُطعم المصريين الخبز المصاب بـ”الإرجوت” السام لإرضاء الروس!

رصد تقرير استقصائي لموقع “أريج” كيف يُطعم السيسي المصريين الخبز المصاب بفطر قمح “الإرجوت” لإرضاء ...