مكانة الأخلاق في الإسلام .. الدكتور يوسف القرضاوي

مقدمة

 

جرت عادة الباحثين في رسالة الإسلام أن يقسموه إلى شُعب أربع: عقائد وعبادات، ومعاملات، وأخلاق، وربما أوهم تأخير شُعبة الأخلاق أنها آخر ما يهتم به الإسلام، وأنها لا ترقى إلى مستوى الشُّعب الأخرى،والحقيقة التي تتجلى لمن يتدبَّر الإسلام في آيات كتابه وسنة نبيه، ويتأمل نصوصها وروحها، أن الإسلام في جوهره رسالة أخلاقية، بكل ما تحمله هذه الكلمة من عمق وشمول،ولا غرو أن تكون “الأخلاقية” خصيصة من خصائصه العامة.

 

وليس ذلك لمجرد أن الإسلام حثَّ بقوة على الفضائل، وحذَّر بقوة من الرذائل، ووصل في هذا وذاك إلى أعلى درجات الإلزام، ورتَّب على ذلك أعظم مراتب الجزاء، ثواباً وعقاباً، في الدنيا والآخرة.

 

وليس ذلك أيضاً لمجرد أن الإسلام عُني بالأخلاق عناية بالغة حتى أن القرآن حين أثنى على الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجد أبلغ ولا أرفع من قوله: ” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ “.
وحتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلخص الهدف من رسالته فيقول في إيجاز بليغ: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
ليست الأخلاقية من خصائص الإسلام لمجرد هذا وذاك، ولكن – بالإضافة إلى ذلك -لأن الأخلاقية تسري في كيان الإسلام كله، وفي تعاليمه كلها، حتى في العقائد والعبادات والمعاملات، وتدخل في السياسة والاقتصاد، والسلم والحرب.
العقائد الإسلامية والأخلاق
العقائد الإسلامية أساسها التوحيد، هنا نجد الإسلام يضفي على التوحيد صبغة خلقية، فيعتبره من باب “العدل” وهو فضيلة خلقية، كما يعتبر الشرك من باب “الظلم” وهو رذيلة خلقية: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وذاك لأنه وضعٌ للعبادة في غير موضعها، وتوجه بها إلى مَن لا يستحقها. بل اعتبر القرآن الكفر بكل أنواعه ظلماً،كما قال تعالى:( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، والإيمان الإسلامي حين يتكامل ويؤتي أكله، يتجسد في فضائل أخلاقية فاضت بها آيات القرآن،وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
نقرأ في القرآن مثل قوله تعالى: ” قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ..).
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا …) الآيات.
والأحاديث النبوية كذلك تربط الفضائل الأخلاقية بالإيمان، وتجعلها من لوازمه وثمراته: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت”، “الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”، ” لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن”.
العبادات الإسلامية والأخلاق
والعبادات الإسلامية الكبرى ذات أهداف أخلاقية واضحة، فالصلاة وهي العبادة اليومية الأولى في حياة المسلم، لها وظيفة مرموقة في تكوين الوازع الذاتي، وتربية الضمير الديني: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).
والصلاة كذلك مدد أخلاقي للمسلم يستعين به في مواجهة متاعب الحياة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)
والزكاة وهى العبادة التي قرنها القرآن بالصلاة – ليست مجرد ضريبة مالية، تُؤخذ من الأغنياء، لترد على الفقراء- إنها وسيلة تطهير وتزكية في عالم الأخلاق، كما أنها وسيلة تحصيل وتنمية في عالم الأموال: ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).

 

والصيام في الإسلام، إنما يقصد به تدريب النفس على الكف عن شهواتها، والثورة على مألوفاتها، وبعبارة أخرى: إنه يهيئ النفس للتقوى وهي جماع الأخلاق الإسلامية: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).

 

والحج في الإسلام تدريب للمسلم على التطهر والتجرد والترفع عن زخارف الحياة وترفها، وخضامها وصراعها، ولذا يفرض في الإسلام الإحرام ليدخل المسلم حياة قوامها البساطة والتواضع والسلام والجدية والزهد في مظاهر الحياة الدنيا: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ).

 

وحين تفقد هذه العبادات الإسلامية هذه المعاني ولا تحقق هذه الأهداف تفقد بذلك معناها وجوهر مهمتها، وتصبح جثة بلا روح. ولا غرو أن جاءت الأحاديث النبوية الشريفة تؤكد ذلك بأسلوب بليغ واضح.

 

فتقول عن الصلاة: “من لم تنهه صلاته عن الفحشاء، فلا صلاة له”، “كم من قائم (أي الليل بالتهجد) ليس له من قيامه إلا السهر”، وعن الصيام: “مَن لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”، “كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش”.

 

 

الأخلاق والاقتصاد

 

وللأخلاق الإسلامية مجالها وعملها في شؤون المال والاقتصاد، سواء في ميدان الإنتاج أم التداول أم التوزيع أم الاستهلاك، فليس للاقتصاد أن ينطلق ـ كما يشاء ـ بلا حدود ولا قيود، دون ارتباط بقيم، ولا تقيد بمثل عليا، كما هي دعوة بعض الاقتصاديين للفصل بين الاقتصاد والأخلاق.

 

ليس للمسلم أن ينتج ما يشاء ولو كان ضاراً بالناس مادياً أو معنوياً، وإن كان يستطيع أن يحصل هو من وراء هذا الإنتاج أعظم الأرباح، وأكبر المنافع.

 

إن زراعة التبغ “الدخان” أو “الحشيش” ونحوه من المواد المخدرة أو الضارة قد يكون فيها مكسب مادي كبير، ولكن الإسلام ينهاه أن يكون كسبه ونفعه من وراء خسارة غيره وضرره.

 

وإن تصنيع الأعناب ليصبح عصيرها خمراً يجلب أرباحاً وفيرة ويحقق منافع اقتصادية للمنتجين من أصحاب الكروم، ولكن الإسلام أهدر هذه المنافع في مقابل المضار الضخمة التي تترتب على الخمر في العقول والأبدان والأخلاق، وتتمثل فساداً في الأفراد والأسر والجماعات، يقول القرآن: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا).

 

وليس للمسلم ـ في ميدان التبادل ـ أن يتخذ بيع الخمر أو الخنزير أو الميتة أو الأصنام تجارة، أو يبيع شيئاً لمن يعلم أنه يستعمله في شر أو فساد أو إضرار بالآخرين، كالذي يبيع عصير العنب ـ أو العنب نفسه ـ ممن يعلم أنه يتخذه خمراً، أو يبيع السلاح ممن يعلم أنه يقتل به بريئاً، أو يستخدمه في ظلم وعدوان،وفي الحديث: “إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه”، وفيه: “مَن حبس العنب أيام القطاف، حتى يبيعه من يهودي ـ أي له ـ أو نصراني، أو ممن يتخذه خمراً ـ أي ولو كان مسلماً ـ فقد تقحم النار على بصيرة”.

 

وليس للمسلم أن يحتكر الطعام ونحوه مما يحتاج إليه الناس رغبة في أن يبيعه بأضعاف ثمنه،وفي الحديث الصحيح: “لا يحتكر إلا خاطئ” أي آثم، وليس للتاجر المسلم أن يخفي مساوئ سلعته وعيوبها، ويبرز محاسنها مضخمة مكبرة، على طريقة الدعاية الإعلامية المعاصرة، ليبذل المشترون المخدوعون فيها من الثمن أكثر مما تستحق. فهذا غش يبرأ منه الإسلام، ورسول الإسلام: “مَن غش فليس منا”.

 

وفى مجال التوزيع والتملك، لا يجوز للمسلم أن يتملك ثروة من طريق خبيث، ولا يحل له أن يأخذ ما ليس له بحق لا بالعدوان ولا بالحيلة، كما لا يحل للمسلم الملك بطريق خبيث، لا يحل له تنمية ملكه بطريق خبيث كذلك، لهذا حرَّم الله الربا والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل، والظلم بكل صوره، والضرر والضرار بكل ألوانه.

 

وفي مجال الاستهلاك، لم يدع الإسلام للإنسان حبله على غاربه، ينفق كيف يشاء، ولو آذى نفسه أو أسرته أو أمته، بل قيَّده بالاعتدال والتوسط فقال: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وحمل على الترف والمترفين، وحرَّم كل ما هو من مظاهر الترف مثل أواني الذهب والفضة، فحرَّمها على الرجال والنساء جميعاً، كما حرَّم على الرجال لبس الذهب والحرير، وبهذا تميز الاقتصاد الإسلامي بهذه الخصيصة العظيمة من خصائصه، أنه “اقتصاد أخلاقي”.

 

وهذه الأخلاق تقدر أن تعطي معنى جديداً لمفهوم “القيمة” وتملأ الفراغ الفكري الذي يوشك أن يظهر من نتيجة (آلية التصنيع)، وإذا استقرأنا الواقع التطبيقي، وجدنا أثر هذا الاقتران بين الاقتصاد والأخلاق، واضحاً وعميقاً في تاريخ المسلمين، وخاصة يوم كان الإسلام هو المؤثر الأول في حياتهم، والموجه الأول لنشاطهم وسلوكهم.

 

 

السياسة والأخلاق

 

وكما ربط الإسلام الاقتصاد بالأخلاق، ربط بها السياسة أيضاً، فليست السياسة الإسلامية سياسة “ميكافيلية” ترى أن الغاية تبرر الوسيلة أياً كانت صفتها، بل هي سياسة مبادئ وقيم، تلتزم بها، ولا تتخلى عنها، ولو في أحلك الظروف، وأحرج الساعات، سواء في علاقة الدولة المسلمة بمواطنيها داخليا، أم في علاقتها الخارجية بغيرها من الدول والجماعات.

 

إن الإسلام يرفض كل الرفض الوسيلة القذرة، ولو كانت للوصول إلى غاية شريفة: “إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً”، فالخبيث من الوسائل، كالخبيث من الغايات مرفوض، ولا بد من الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة.

 

في علاقة الدولة بمواطنيها يقول الله تعالى مخاطباً أولي الأمر في المسلمين: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا).

 

فأداء الأمانات ـ بمختلف أنواعها المادية والأدبية ـ إلى مستحقيها، والحكم بين الناس ـ كل الناس ـ بالعدل، هو واجب الدولة المسلمة مع رعاياها.

 

إن السياسة الإسلامية في الداخل يجب أن تقوم على أساس العدل والإنصاف والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات والعقوبات، وعلى الصدق مع الشعب ومصارحته بالحقيقة دون تضليل أو تدجيل وكذب عليه، فإن أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم “ملك كذَّاب” كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي علاقة الدولة بغيرها من الدول يجب عليها الوفاء بعهودها، وجميع التزاماتها، واحترام كلمتها.

 

يقول تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

 

ففي هاتين الآيتين يأمر الله تعالى باحترام العهود والمواثيق ويضيفها إلى الله تعالى “عهد الله” ويحذِّر من نكث العهود بعد إبرامها، كفعل تلك المرأة الحمقاء التي تنقض غزلها من بعد إحكامه، وقوة إبرامه، وينادي بأن تكون المعاهدات والاتفاق بين الأمم مبنية على الإخلاص وحسن النوايا، دون الدخل والغش الذي يقصد به أن تكون أمة هي أربى وأزيد نفعاً من أمة، فتستفيد من المعاهدة على حساب أمة أخرى. وهو ما نشاهده في معاهدات هذا الزمان.

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً يحتذى في احترام الاتفاقات، ورعاية العهود، وإن رأى أصحابه فيها أحياناً ما يعتقدونه إجحافاً بالمسلمين، كما في صلح الحديبية، ولما جاء رجل يريد أن ينضم إلى جيش المسلمين في إحدى الغزوات ضد قريش، وكان الرجل قد عاهدهم ألا يحارب في صف عدوهم، لم يستجب له النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بالوفاء قائلاً: “نفي لهم، ونستعين الله عليهم”.

 

فإذا كان بعض الناس يعتقد أن السياسة لا أخلاق لها، فهذا أبعد ما يكون عن سياسة الإسلام، التي تقوم ـ أول ما تقوم ـ على العدل والوفاء والصدق والشرف ومكارم الأخلاق.

 

 

الحرب والأخلاق

 

وإذا كانت تلك هي سياسة الإسلام في السلم، فإن سياسته في الحرب أيضاً لا تنفصل عن الأخلاق، فالحرب لا تعني إلغاء الشرف في الخصومة، والعدل في المعاملة، والإنسانية في القتال وما بعد القتال.

 

إن الحرب ضرورة تفرضها طبيعة الاجتماع البشري، وطبيعة التدافع الواقع بين البشر الذي ذكره القرآن الكريم بقوله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)

 

ولكن ضرورة الحرب لا تعني الخضوع لغرائز الغضب والحمية الجاهلية وإشباع نوازع الحقد والقسوة والأنانية، إذا كان لا بد من الحرب، فلتكن حرباً تضبطها الأخلاق، ولا تسيرها الشهوات، لتكن ضد الطغاة والمعتدين لا ضد البرآء والمسالمين: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

 

إذا كان لا بد من الحرب، فلتكن في سبيل الله، وهو السبيل الذي تعلو به كلمة الحق والخير ـ لا في سبيل الطاغوت ـ الذي تعلو به كلمة الشر والباطل، (الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا).

 

لتكن من أجل استنقاذ المستضعفين، لا من أجل حماية الأقوياء المتسلطين: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)، ولتتقيد الحرب بأخلاق الرحمة والسماحة، ولو كانت مع أشد الأعداء شنآنا للمسلمين، وعتوا عليهم.

 

وإذا كان كثير من قادة الحروب وفلاسفة القوة، لا يبالون أثناء الحرب بشيء إلا التنكيل بالعدو، وتدميره، وإن أصاب هذا التنكيل مَن لا ناقة له في الحرب ولا جمل، فإن الإسلام يوصي ألا يُقتل إلا مَن يقاتِل، ويحذِّر من الغدر والتمثيل بالجثث وقطع الأشجار، وهدم المباني، وقتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان المنقطعين للعبادة والمزارعين المنقطعين لحراثة الأرض.

 

وفي هذا جاءت آيات القرآن الكريم، ووصايا الرسول الكريم، وخلفائه الراشدين، ففي القرآن: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، وفي السنة كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه إذا توجهوا للقتال بقوله: “اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا مَن كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً…”.

 

وكذلك كان الخلفاء الراشدون المهديون من بعده يوصون قوادهم: ألا يقتلوا شيخاً، ولا صبياً، ولا امرأة، وألا يقطعوا شجراً، ولا يهدموا بناء”، بل نهوهم أن يتعرضوا للرهبان في صوامعهم، وأن يدعوهم وما فرغوا أنفسهم له من العبادة.

 

يذكر المؤرخون المسلمون أن الخليفة الأول أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه ـ في المعارك الكبرى التي دارت بين المسلمين والإمبراطوريتين العتيدتين فارس والروم ـ أرسل إليه رأس أحد قادة الأعداء من قلب المعركة إلى المدينة عاصمة الدولة الإسلامية، وكان القائد يظن أنه يسر بذلك الخليفة، ولكن الخليفة غضب لهذه الفعلة لما فيها من المُثلة، والمساس بكرامة الإنسان فقالوا له: إنهم يفعلون ذلك برجالنا، فقال الخليفة في استنكار: آستناناً بفارس والروم؟ لا يحمل إلي رأس بعد اليوم!

 

وبعد أن تضع الحرب أوزارها، يجب ألا يُنسى الجانب الإنساني والأخلاقي في معاملة الأسرى وضحايا الحرب، يقول الله تعالى في وصف الأبرار من عباده: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).
x

‎قد يُعجبك أيضاً

بالفيديو| خالتي تصفية والدير.. جديد “تعاشب شاي”

بث الإعلامى أحمد بحيري حلقة أخرى من حلقات برنامجه “تعاشب شاي” على موقع يوتيوب، اليوم ...